الجمعة، 26 سبتمبر 2008

النمو الاقتصادي المصري في عهد نظيف: من أين يأتي؟ وإلى متى يستمر؟

وائل جمال*

حينما جاءت حكومة نظيف للحكم قبل ما يقرب من ثلاث سنوات، هلّلت المؤسسات الاقتصادية الدولية لها، واعتبرت أنها ستكون دفعة للاستثمار الخاص وبداية لعهد الإصلاح الحقيقي. واليوم، مازالت هذه المؤسسات، ومازالت تقاريرها، تحتفي بحكومة اليمين المصري الجديد. لكنها الآن لا تكتفي بالاحتفاء اعتمادا على توقعات المستقبل، وإنما أيضا على مؤشرات، أبرزها معدل النمو الاقتصادي، الذي قفز إلى ما يقرب من 7%، إلى جانب مؤشرات أخرى، كالاستثمار الأجنبي المباشر وارتفاع أرصدة العملة الأجنبية وتحسّن معدّلات الإقراض البنكي.

فهل نجح اليمين الجديد حقا في إزالة الصدأ من على ماكينة التراكم الرأسمالي؟ وهل أفلح في وضع الرأسمالية المصرية في حلبة المنافسة العالمية الشرسة؟

النمو.. في أي مرحلة؟

تقوم الإستراتيجية الاقتصادية لحكومة نظيف منذ مجيئها للحكم على استهداف تحقيق طفرة في معدلات النمو، وهو هدف تقليدي في كل تجارب وصفة الليبرالية الجديدة. وبحسب الوصفة، فإن تحقيق معدلات نمو مرتفعة ومتواصلة (أي تحفيز وتسريع دورة التراكم والأرباح الرأسماليين) سيسهم في تخفيض الدين العام المنتفخ، وتقليص عدد العاطلين (الحكومة تقول إنهم في حدود 10%، بينما تصل بهم تقارير وحدة استخبارات مجلة الإيكونوميست البريطانية إلى 20%)، وذلك عبر استثمارات جديدة ترفع معدلات التشغيل.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف حاولت الحكومة، التي تمثل أغلبيتها المسيطرة تحالفا من الحيتان الرأسماليين الجدد، قدر طاقتها الالتزام بفلسفة الضبط المالي وتخفيض الإنفاق الاجتماعي، جنبا إلى جنب مع تحرير الأسواق، وهي فلسفة نعلم جميعا المصالح التي تخدمها وأعداد الفقراء التي تخلقها.

من هذا المنطلق، نفذت حكومة نظيف عددا من الإجراءات تتضمن تخفيضات حادة في الضرائب على المستثمرين، وتخفيضات في الجمارك، وهجمة على دعم الفقراء، وتحرير لسوق الخدمات استتبع رفعا لأسعار المياه والكهرباء والمواصلات.. كل هذا جنبا إلى جنب مع تفعيل برنامج الخصخصة وبيع الشركات العامة.

شكلت هذه الإجراءات تحوّلا في برنامج التكيف الهيكلي الذي توجه له نظام مبارك بمجرد استقراره في الحكم مع منتصف ثمانينات القرن الماضي، ثم الذي تبناه رسميا مع مطلع التسعينات.

لكن النمو الاقتصادي في مصر لم يسر على منوال واحد خلال هذه الفترة التي تقترب من عشرين عاما. في البدء كان النمو. فبحسب دراسة للبنك الدولي صادرة نهاية 2005، لفاروق إقبال وأنطون دوبرانوجوف، بعنوان "النمو الاقتصادي في مصر"، تزامن التوجه لبرنامج الليبرالية الجديدة مع انحسار مرحلة من تراجع معدلات النمو في الفترة من 1986 إلى 1991، وهي مرحلة تلت بدورها وصول معدلات النمو لأعلى نقاطها في السبعينات (فوق السبعة في المائة سنويا).

المرحلة الجديدة ترافقت مع بدء تبني برنامج التكيف الهيكلي وسلسلة الاتفاقات مع صندوق النقد، وتمتد من 1992 إلى 1998. شهدت معدلات النمو في هذه المرحلة ارتفاعا نسبيا متأثرة بخفض العجز المالي من 15% إلى ما يزيد قليلا على 1% في أول أربع سنوات منها، وبتخفيض عبء الديون الخارجية مكافأة لنظام مبارك على مشاركته في حرب الخليج. وشهدت هذه المرحلة أول موجة من الخصخصة وتنشيط بورصة الأوراق المالية.

لكن هذا الوضع لم يستمر. وجاءت للرأسمالية الكبوة بعد الصحوة، وهي المرحلة التي امتدت من 1999 إلى 2004، وشهدت تراجعا مرة أخرى لمعدلات النمو بفعل الكساد العالمي وبفعل فضيحة القروض التي أدت لتخفيض قدرة الجهاز المالي على توفير الاعتماد. ولا ننسى أيضا بدء تساقط مشروعات مبارك الكبرى في توشكى وحديد أسوان وشرق التفريعة، تلك المشروعات التي ضخت الدولة فيها مليارات الجنيهات!

ولا يجب أن ننسى كذلك في هذا السياق ما يرصده أحمد النجار في كتابه "الانهيار الاقتصادي في عصر مبارك" من أن معدلات النمو عموما منذ 1983، بغض النظر عن التذبذبات الدورية، منخفضة للغاية مقارنة بالعصر الذهبي للنمو الاقتصادي في الستينات (متوسطه السنوي 8.3%) أو حتى ذروته في السبعينات (حينما وصل أحيانا لما فوق 7%). إذ يقول النجار إن متوسط معدل النمو السنوي تدهور بين 1983 و2004 إلى 4.1% سنويا، وذلك طبقا لأرقام صندوق النقد، المأخوذة من الأرقام الرسمية المبالغ فيها.

من هنا تأتي أهمية تطورات النمو الأخيرة. وبعيدا عن الإحصاءات الحكومية، التي يشوبها الكثير من عدم الدقة ومن التضخيم، يقول آخر تقارير وحدة استخبارات الإيكونوميست إنه يتوقع أن يصل معدل النمو المصري في 2006/2007 إلى 7.1%، بعد وصوله إلى 6.8% في العام الذي سبقه، وهو معدل لم تحققه الرأسمالية المصرية منذ سبعينات القرن الماضي.

ليس هذا فقط، بل يتزامن هذا النمو مع مضاعفة الاستثمارات الأجنبية المباشرة عدة مرات إلى 7.2 مليار دولار في العام الماضي. أيضا تحققت درجة عالية من استقرار معدل صرف الجنيه المصري الذي إن تحرك فبتؤدة ليكسب أرضا في مواجهة الدولار الأمريكي. وأخيرا، تحقيق فائض متواصل في الحساب الجاري وتحسن في معدل إقراض الجهاز المصرفي للقطاع الخاص.

من أين يأتي نمو حكومة نظيف؟

تقول مؤسسة إي إف جي هيرميس، أحد الأذرع الرئيسية للرأسمالية الجديدة في مصر، في تقرير صدر في نهاية فبراير الماضي، إن هذا الصعود كان متوقعا في إطار الدورة الاقتصادية. لكن هيرميس ربطته بوضوح ببرنامج حكومة نظيف وإصلاحاتها التي خلقت نموا في الطلب المحلي بفعل تخفيضات الضرائب والجمارك.

في نفس الوقت رصدت إي إف جي مصادر أخرى للنمو. أولا الارتفاع الكبير في صادرات الغاز الطبيعي المصرية التي شهدت طفرة في العامين الماضيين بفعل سياسة مصرّة على التصدير كاستراتيجية رغم كل الانتقادات. أيضا النمو المتواصل في عوائد قناة السويس منذ الربع الثاني من 2002 مع زيادة حركة التجارة العالمية بفعل النمو الهندي الصيني. حيث تضاعفت عوائد القناة من 1.9 مليار دولار في 2000/2001 إلى 3.6 مليار في 2005/2006. كما أشارت هيرميس إلى ارتفاع عوائد النفط في الخليج التي خلقت فوائض جذبت مصر بعضها في الفترة الأخيرة (استثمارات إعمار الإماراتية في العقارات، واتصالات الإماراتية في شبكة المحمول الثالثة، والراجحي السعودية في مشروع توشكى..الخ). وتوجهت بعض هذه الاستثمارات، جنبا إلى جنب مع استثمارات قادمة من تركيا، إلى الصناعة.

ويمكن الإشارة أيضا إلى النمو في قطاعين خدميين آخرين، هما الاتصالات الذي نما في العام الماضي بنسبة 40%، والسياحة التي نمت قيمتها المضافة بمعدلات وصلت 22%.

لكن هذه المصادر للنمو تجعلنا نعتقد أن له حدودا قريبا ما سوف تكشف عن نفسها.

حدود النمو المصري

يمكن فهم حدود النمو المصري بالنظر إلى أربع عوامل. أول هذه العوامل هو ضعف القطاع الخاص وضعف أداء المؤسسات المالية المصرية. فصحيح أن معدلات النمو الاقتصادي المرتفعة التي أشرنا إليها تقترن بزيادة في معدلات إقراض الجهاز المصرفي للقطاع الخاص، وهو المؤشر الأول على عمق دورة التراكم الرأسمالي، إلا أن هذه الزيادة محدودة للغاية ولا تتجاوز 5%، بينما لا تتجاوز نسبة النمو في الأصول 8%.

كان معدل الإقراض للقطاع الخاص دائما في السنوات الأخيرة أقل من معدل النمو. ويبدو أن هذه الظاهرة إن تحسنت فلن تتحسن كثيرا. وتقول الدولة (عن حق) إن هذا سببه التأثر بفضيحة الديون المتعثرة التي تحاول الحكومة جهدها تجاوزها، لكي تزيل هذا العبء من على ميزانيات البنوك وتعيد الرأسماليين المتعثرين إلى ساحة الاستثمار. وآخر الخطوات في هذا الصدد هو ما أعلنه محافظ البنك المركزي مؤخرا من مبادرة لإسقاط جزء من ديون المتعثرين الصغار.

لكن أيضا هناك عنصر آخر هو ضعف تكوين القطاع الخاص المصري، والأهم من ذلك انخفاض معدلات الربحية، وهو الأمر الذي يسبب عزوف القطاع الخاص عن الاستثمار. ويدفع هذا الأمر الدولة إلى ضخ استثمارات ضخمة لكي تحرك عجلة التراكم، حتى لو تناقض ذلك مع الأيديولوجيا المعتمدة لديها بأنها لا تشارك في العملية الاقتصادية. لكن لهذا عواقبه التي قد تحدّ من النمو في النهاية.

العامل الثاني هو الدين العام وعجز الموازنة. وهذا همّ أساسي لدى صقور اليمين الجديد في مصر، وقد دعاهم لاختيار يوسف بطرس غالي على وجه التحديد على رأس وزارة المالية المصرية. والوصفة التي يطبقها غالي منذ مجيئه محددة وواضحة: تقليل الدعم وتحرير الخدمات وتقليص الإنفاق الاجتماعي للدولة، مرة بحجة الأسعار العالمية، وأخرى بحجة أن الدعم لا يصل لمستحقيه، وأحيانا لأن هذا النوع من الإنفاق يخلق تشوهات تفسد آلية السوق وتعوقها عن تحقيق الرخاء المنشود.

لكن بما أن ضعف القطاع الخاص وضعف تدفق الائتمان إليه يفرض على الدولة ضخ أموال ضخمة، فإن هذا سيعاكس أثر أي سياسة هدفها تقليص الدين العام. ويزيد تأثير هذه النقطة في ظل اضطرار الحكومة لرفع أسعار الفائدة لمحاولة محاصرة التضخم (جدير بالذكر هنا أن هذا يحدّ من هوامش الربح ويقلل الاستثمار ويزيد من وتيرة زيادة الدين العام).

أما العامل الثالث فهو طبيعة القطاعات الأكثر نموا: فالسياحة وقناة السويس والاتصالات كلها قطاعات لا تمس عمق الاقتصاد الحقيقي في الصناعة والزراعة والذي مازال يعاني بشدة. هذا إلى جانب أن قابليتها للتأثر بالصدمات سواء الداخلية (كعدم الاستقرار السياسي أو الأعمال الإرهابية) أو الخارجية (كأزمة اقتصادية عالمية أو تراجع حركة التجارة أو الحروب الإقليمية) عالية جدا.

وأخيرا هناك استمرار الزيادة في العجز التجاري الذي يتوقع أن يزيد في العامين القادمين إلى مستوى 12 مليار دولار بسبب زيادة الواردات وفشل الصادرات المصرية في تحقيق القفزة المطلوبة. وتقول الإيكونوميست إن فوائض تصدير الغاز حتى لن تكون قادرة على وقف هذه الزيادة. وأهمية هذا المؤشر تنبع من محورية التصدير بالنسبة لاستراتيجية اليمين الجديد ومن أنه مؤشر على تنافسية الرأسمالية المصرية ككل إقليميا ودوليا.

ويشير تقرير إف جي هيرميس إلى حزمتين من الشروط ستحدد مصير موجة النمو المصرية. الأولى حزمة الشروط المتعلقة بالاقتصاد العالمي والتطورات الاقتصادية الإقليمية. والثانية تتعلق بالجوانب الاجتماعية والسياسية المترتبة على عملية الإصلاح. ويؤكد التقرير أن أي تراجع أو نكسة في أي من هذه العناصر سوف يؤثر سلبا بقسوة على أداء مصر الاقتصادي.

النمو المصري والرأسمالية العالمية والإقليمية

ارتباط الحزمة الأولى من محددات استمرار النمو المصري بالاقتصاد العالمي بديهي تماما. فلا وجود للرأسمالية بمعزل عن الرأسمالية العالمية. فالتنافس هو محرك النظام، والنقطة التي يصل إليها من يتقدمون المنافسة تحدد مصير كل من يأتي تاليا. ويعني هذا نتيجتين. الأولى هي أنه إذا صح تقييم أداء اقتصاد رأسمالي ما من خلال تاريخه، فإن الأهم هو مقارنته بمنافسيه وماذا حققوا في نفس الفترة. أما النتيجة الثانية فهي أنه يؤثر ويتأثر بحسب مكانه هذا في ساحة التصنيف العالمي المبنية على منافسة لا تتوقف.

وإذا انطلقنا من النقطة الأولى، فإن وضع الرأسمالية المصرية يجيء في ذيل ما يسمونه بالاقتصادات الناشئة، ناهيك عن البلدان الرأسمالية المتقدمة. ويستخدم أحمد النجار هذا المعيار ليرصد حالة الانحطاط الاقتصادي المصري في عصر مبارك. فيقول في كتابه إن "مصر كانت تقف في الصف الأول مع أسرع دول العالم في النمو الاقتصادي، بالذات في فترة الازدهار الذهبية في النصف الأول من ستينات القرن العشرين"، وإنه "خلال الفترة من 1983 وحتى 2004 تدهور متوسط الناتج المحلي إلى 4.1% سنويا مقارنة بـ9.8% في الصين و5.8% في الهند، و6% سنويا في ماليزيا و 6% في كل من كوريا الجنوبية وتايلاند". وإذا طبقنا نفس المعيار فيما يتعلق بفترة تسارع معدلات النمو على يد اليمين الجديد، فسيتراجع حجم الإنجاز الذي حققته الرأسمالية المصرية.

وبالعودة لتقرير التوقعات الاقتصادية لعام ألفين وسبعة الخاص بصندوق النقد الدولي في قسمه الخاص بالشرق الأوسط، نستطيع أن نلاحظ أن النمو لم يكن ظاهرة مصرية. فكما يقول التقرير، دفعت فورة أسعار النفط موجة من النمو الاقتصادي بلغ متوسطها في القطاع غير النفطي فقط في الإقليم ثمانية في المائة. وبالتالي فإن معدل 6,8% المصري لا يجعلها في قيادة النمو في المنطقة.

الشيء الآخر متعلق بحجم الاستثمار الأجنبي المباشر الذي، وإن زاد بمعدلات هائلة بالنسبة لمصر، فإنه يتقزم أمام مثيله الذي توجه للإمارات العربية المتحدة أو تركيا أو حتى الأردن وتونس. ناهيك عن أن هناك قفزة في الاستثمار العالمي بتسعة وعشرين في المائة العام الماضي لتصل إلى  916 مليار (قارن السبعة مليارات المصرية).

معنى ذلك أن الزيادة المصرية جزء من اتجاه عالمي وليست علامة على تحسن موقع مصر. الأكثر من هذا هو أن جزءا أساسيا من هذه الاستثمارات العالمية، وهذا ينطبق على مصر، كان موجها نحو عمليات الاستحواذ والاندماج وليس نحو خلق أصول جديدة، وهو ما يقلل من دلالة تدفق هذه الاستثمارات. فعندما تشتري شركة عابرة للجنسيات شركة مصرية عامة ــ تمت هيكلتها فعلا من قبل الحكومة ــ فإنها لا تضيف باستثماراتها هذه أصولا جديدة للاقتصاد. ويتوقف الأمر هنا على ما ستفعله الحكومة بثمن بيع الشركة.

 وفيما يتعلق بنقطة التنافسية فقد صدر تقريران، واحد يختص بمناخ الأعمال في العالم والثاني عن التنافسية، ليثيرا غضبا وهجوما حكوميا مصريا. لماذا؟ لأن التقريرين صنفا مصر في مرتبة متأخرة للغاية. ليس هذا فقط، بل حدث تراجع مقارنة بالعام الماضي، وهو ما كان بالنسبة لأنبياء الإصلاح الليبرالي الجديد ـ عن حق ـ بمثابة إعلان فشل.

أما عن الجانب الثاني المتعلق بالتأثير والتأثر بين رأسمالية نظيف والعالم، فتكفي هنا الإشارة إلى تدفقات استثمارات الخليج، التي تعطي شيئا لوزارة الاستثمار للتشدق به، والتي قد تتعرض لصدمة في أي لحظة في حال حدوث أي صدمة لأسعار النفط. الأهم من ذلك هو التوقعات بتباطؤ الاقتصاد الأمريكي في الشهور المقبلة. وهو أمر قد يهدد بتباطؤ عالمي لن تنجو منه مصر. وتزيد مخاطر الاقتصاد العالمي في ظل التشوهات الناتجة عن طبيعة النمو الصيني وعلاقته بالولايات المتحدة. وتكفي الإشارة هنا إلى ما شهده الثلاثاء الأسود الأخير للبورصات العالمية والذي انطلقت شرارته من الصين.

النمو ليس كل شيء

إذا حسبنا المتوسط الحسابي لدرجتي حرارة منتجين معدنيين، الأولى مائة وخمسون درجة والثانية سالب مائة وخمسون، فإن المتوسط سيكون صفرا! لا يعني هذا فقط أن النتيجة لا تخبرنا شيئا، وإنما يعني أنها قد تورطك إن حاولت أن تعتمد عليها. فلو وضعت يدك على أي من المنتجين ستصاب بعاهة! ولذلك ففي علم الإحصاء يجب أن يقترن المتوسط الحسابي دائما بمؤشر آخر هو الانحراف المعياري.

يمكن، مع الفارق، أن ينطبق هذا المنطق على معدل النمو الاقتصادي كمعدل متوسط. لا يكشف هذا المؤشر كيف يتم توزيع هذه الزيادة على الشرائح  الاجتماعية المختلفة، ولا يكشف توزيعها بين القطاعات. وفي هذا الإطار فإن آخر التحليلات الاقتصادية تشير إلى أن تفاقم الاحتكار لعوائد الاقتصاد، واستبعاد شرائح اجتماعية متزايدة منه، يهددان العملية ككل، ليس فقط سياسيا، وإنما أيضا على مستوى زخم التراكم نفسه وحيوية وتدفق السوق (أنظر كيف يؤدي احتكار عز للحديد لخنق كل الراغبين في دخول السوق وتطوير إنتاجه).

ولأن مؤسسة كـ"إي إف جي هيرميس" لا تكتفي بحرب الدعاية الخاصة بالمؤشرات، فهي تنبه في تقريرها إلى عاملين قد لا يتعامل معهما علم الاقتصاد البرجوازي، خاصة في نسخته الليبرالية الجديدة: العواقب السياسية، وتأثير الجانب الاجتماعي على التراكم (معدلات الاستغلال ودرجة تطور العامل وتكلفة إنتاج عامل يدعم تنافسية الرأسمالية). من هنا تؤكد هيرميس على أن البطالة وطبيعة العمالة (بمعنى ضرورة تطوير التعليم وربطه باحتياجات تطور الرأسمالية) ستحددان مصير النمو المتحقق على يد نظيف ورجاله.

ونفهم من تحذيرات هيرميس أن هناك معضلة على النمو الرأسمالي المصري أن يواجهها، وهي ضرورة التحرك في وقت تنعدم فيه شرعية البرجوازية المصرية الحاكمة من جانب، وتزداد فيه ضرورات تكثيف الاستغلال وتحميل أعباء دينها العام للفقراء من جانب آخر. وهي معضلة لن يفيد في تجاوزها حل مبني على التوازن، لأنه لن يقدم شيئا لأحد. بينما سيكون على البرجوازية المصرية في حال تبنيها خيار التحرك السريع لإنقاذ حيوية التراكم والمراهنة على اللحاق الرأسمالي العالمي أن تواجه مارد الغضب العمالي والشعبي، الذي أعطانا عمال النسيج المصريون في مطلع العام الحالي، في بروفة لإمكانياته وعناده، الأفق الذي يمكن أن يفتحه لجميع الفقراء والمضطهدين.

* نشرت في مجلة اوراق اشتراكية في الاول من ابريل ٢٠٠٧

ليست هناك تعليقات: