السبت، 2 يناير 2010

هزيمة.. ولكن

بقلم:
وائل جمال
29 مارس 2007
الاصدار: الاشتراكي


ما من شك في أن تمرير التعديلات الدستورية، من خلال مجلس الشعب والاستفتاء اللقيط، هزيمة حقيقية لحركة التغيير التي دشنت وجودها الحقيقي مع تظاهرات الحادي والعشرين من مارس قبل أربع سنوات. فقد نجح نظام مبارك في تحسين الشروط القانونية التي يمارس ديكتاتوريته من خلالها وأدمجها في الدستور نفسه بغض النظر عن أنف من يسميهم طبالوه من نوعيه ممتاز القط وأسامة سرايا بالأفاعي من رافضي السلطوية التي تكرسها هذه التعديلات. وبدلا من أجواء التعبئة الشعبية وسيادة روح التغيير واكتساب مساحات التظاهر والاحتجاج في الشارع، جاءت التعديلات لتقنن الإحالة للمحاكمات العسكرية وتعطي صفة الدوام لمضمون قانون الطوارئ المؤقت عبر قانون الإرهاب. وإذا كانت السلطوية هي السمة المؤكدة لهذه التعديلات بإجماع كل من هم ليسوا في الحزب الوطني، فإن تصوير الهزيمة الحقيقية التي تعرضت لها حركة التغيير في مصر بكل أجنحتها على أنه نهاية لمعركة التغيير أو انتصار نهائي لمشروع التوريث هو مبالغة عاطفية مضرة والأهم من هذا هو أنها تغفل لب وجوهر ما ألهم روح التغيير وما سمح للنظام بقلب الطاولة عليها، وهو نفسه ما يشي بأن المواجهة لم تنته وإنما تتصاعد: تصاعد الصراع الاجتماعي وانحسار شرعية حكم البرجوازية المصرية بقيادة مبارك لحدود الانعدام.

الطبقة الحاكمة بين تعديلين

كان إعلان تعديل المادة 76 من الدستور في ربيع عام 2005 تعبيرا عن لحظة ذات طبيعة خاصة. كانت الطبقة الحاكمة في مصر تواجه ضغطا أمريكيا متزايدا في ظل توجهات تغيير الأنظمة لدى الحليف الأمريكي. الأخطر من ذلك، كان الوضع الإقليمي المتفجر يشي بانفجار هائل بعد أن عرت الحرب الأمريكية على العراق والتطورات على الساحة الفلسطينية تناقضات النظام وتحالفاته. ومن رحم هذا كله بدأ الضغط الشعبي يتبلور في ثقل متزايد لحركة وليدة تطالب بالتغيير كانت تتويجا لجهود حركة التضامن مع الانتفاضة الفلسطينية ثم الحركة ضد ضرب العراق. في مواجهة هذا كله، بدا واضحا تماما للطبقة الحاكمة أن الاستمرار في الحكم بنفس الطريقة التي اتبعتها بقيادة مبارك على مدى ربع قرن ربما لم يعد ممكنا. فتكسير كل الوسائط السياسية من أحزاب ونقابات وتدهور شعبية الحزب الوطني كلها تهدد بانفجار غير مضمون العواقب وغير قابل للمحاصرة والتوجيه. الأهم من ذلك أن الطبقة الحاكمة نفسها بدأت في الانقسام بين جناح بيروقراطية الحزب وجناح رجال الأعمال الجدد الذين رموا بثقلهم وراء مشروع التوريث لجمال مبارك ومجموعة الليبراليين الجدد الذي عبأهم حوله. كان تعديل المادة 76، بعيوبه، علامة على انقسام وتراجع، خطوة للوراء من وجهة نظر الطبقة الحاكمة.

وككل الطبقات الحاكمة، حاول جناح رجال الأعمال الجدد وصقور لجنة السياسات استغلال هذه الخطوة لاكتساب شرعية جديدة يمكن استغلالها لحسم المعركة الداخلية. وهكذا قدم هذا الجناح الذي دعم مواقعه بسيطرة حكومة نظيف على الحكومة ثم بالتعديل الوزاري التالي على أنه يجمع –على عكس جناح صفوت الشريف وكمال الشاذلي- بين الليبرالية الاقتصادية غير الفاسدة وبين الليبرالية السياسية.

وبعد سنتين فقط تجيء التعديلات الدستورية لتقنن وضعا ربما لم يكن بمقدور الطبقة الحاكمة أن تحلم به في ألفين وأربعة وألفين وخمسة. ويشير اختلاف الملابسات إلى اختلاف بين في طبيعة الموقف برمته. فبينما كان هم الطبقة الحاكمة في الانتخابات الرئاسية ثم التشريعية أن تظهر بصورة راعية الديمقراطية مقدمة المرشحين، ولو صوريا، في التليفزيون، عاد السياق إلى ما كان عليه قبل سنوات مرة أخرى لتطلق آلة الدعاية التي تضعها تحت تصرفها بشكل كامل ودون حياء مستخدمة مخزونها التاريخي من تعبيرات القلة المخربة من الأفاعي...الخ.

ضرورات الليبرالية الاقتصادية

وربما بتحليل أهداف النظام الحاكم من هذه الخطوة يمكننا فهم دوافعها ودلالتها.وفي دراسة لمعهد كارنيجي للسلام يقول د. عمرو حمزاوي إنه "منذ نجاح جماعة الإخوان المسلمين في الفوز بما يقرب من 20% من مقاعد مجلس الشعب في انتخابات 2005 التشريعية ونظام مبارك يريد أولاً تضييق مساحة المشاركة السياسية لجماعة المعارضة الأكثر شعبية في مصر واحتواءها كي لا تتحول إلى منافس حقيقي على السلطة". في هذا الإطار يجيء منع النشاط السياسي بمرجعية دينية والذي يمكن الطبقة الحاكمة من تصعيد حملتها الأمنية ضد الإخوان وتصفية قوتهم التي اكتسبوها من خلال الانتخابات. أما الهدف الثاني من وجهة نظر حمزاوي فيتمثل في الحيلولة مستقبلاً دون تشكل جبهة موحدة للمعارضة تضم الإسلاميين والعلمانيين - وقد كان لذلك بدايات جنينية في 2005 - من خلال تقديم حوافز للأحزاب الليبرالية واليسارية المسجلة تباعد بينها وبين جماعة الإخوان المحظورة قانونياً وتكرس اعتماد الأحزاب على النظام لضمان استمرارية مشاركتها السياسية. وهنا يقدم النظام نفسه من كراعي للمواطنة والعلمانية في مواجهة الإخوان ليعزلهم عن باقي المعارضة. و ثالثاً، وهنا أيضاً وفقاً لخبرة وحصيلة انتخابات 2005، صياغة مجموعة جديدة من الأدوات الدستورية التي تدعم سيطرة الحكم على مخرجات العملية الانتخابية إن على المستوى الرئاسي أو البرلماني أو المحلي عبر تقييد الرقابة القضائية وغيرها. ثم كان الإبقاء على واجهة ديمقراطية تستجيب ظاهرياً لعدد من مطالب المعارضة المصرية في الداخل وتحفظ للنظام حد أدنى من شرعية الرغبة في الإصلاح أمام الخارج دونما أي تخلي عن جوهر الإدارة السلطوية للحياة السياسية هو الهدف الرابع لنظام مبارك كما تراها مؤسسة كارنيجي البحثية الأمريكية.

وربما كانت هذه هي الأسباب المباشرة للتعديلات لكنها لا تبدو كافية لفهم التحول في موقف الجناح المنتصر في المعركة الداخلية للطبقة الحاكمة دون ربطها من جانب بمشروع التوريث لجمال مبارك ومن ناحية أخرى بالتناقض بين الليبرالية الاقتصادية القاسية التي تطبق على أرض الواقع وأي صورة من صور الليبرالية السياسية. ففي النقطة الأولى، وقد يكون هذا هو سبب التعجل الشديد في تمرير التعديلات (أعلن عنها في سبتمبر وتقدم كاقتراح في ديسمبر ثم كاقتراح متكامل في نهاية يناير ليقر قبل موعده في أبريل في استفتاء 26 مارس)، تعطي التعديلات أرضية قانونية دستورية لمجلس شعب جديد بلا صوت معارض قوي، وتخلص الوريث من القوة الأساسية المرشحة لمنافسته، وتعطيه في حال مجيئه كرئيس للوزراء سلطات متزايدة تصل إلى حد القيام بسلطات رئيس الجمهورية في حال غياب نائب له.

لكن النقطة الثانية هي الأهم بما لا يقاس. فالبرنامج الليبرالي الجديد الذي يطبقه صقور لجنة السياسات لتحرير تاريخي للخدمات ودفع للخصخصة وانحياز كامل للاستثمار الخاص على حساب الفقراء لا يستقيم أبدا مع إعطاء حق التمثيل الديمقراطي. ورأى هؤلاء كيف أجبرت الإضرابات التي انتزعها عمال النسيج انتزاعا على إيقاف مسيرة الخصخصة أو تعطيلها في أحسن الأحوال وعلى انتزاع مكاسب عمالية خارج النطاق التاريخي لعصر عز وأبو العينين.

قلعة الكبش والتعديلات الدستورية

في تحقيق لها عن التعديلات الدستورية استطلعت جريدة النيويورك تايمز الأمريكية رأي المحتجين في قلعة الكبش بفعل الحريق الذي التهم بيوتهم تاركا إياهم في العراء. بناءا على ردود فعل من تكلمت معهم الجريدة، قالت في مقدمة التحقيق إنه لا مكان للتعديلات الدستورية بالنسبة لمن يقطنون قلعة الكبش. "الناس هنا يبحثون عن مأوى ووظيفة ووجبة دافئة" قالت الجريدة. لكن في الحقيقة فإن ما حدث في قلعة الكبش من مواجهات بين أناس، لا يرغبون سوى في عيش مستور تحت سقف يقيهم من وطأة الشارع، وبين الشرطة، مواجهات أسقطت 28 جريحا، يؤكد أنه لا انفصال بين الشأنين على الأرض وأن السلطوية التي عادت بها التعديلات هدفها التعامل مع الصراع الاجتماعي المحتدم. وهنا، كما شهدت نضالات عمال النسيج، فإن طبيعة المعركة مختلفة تماما. فمن يخوضونها مختلفون كثيرا عن قيادات كفاية أو الإخوان المسلمين. هؤلاء يدافعون عن لقمة عيشهم المباشرة وعن حقهم في وظيفة وفي المأكل والمشرب. هؤلاء ليس لديهم ما يخسرونه من المواجهة إذ هم خاسرون بالفعل من طبيعة التوازن القائم. هؤلاء يضربون عن الطعام بالآلاف لحين تحقيق مطالبهم. وهؤلاء هم الهدف الحقيقي للتعديلات الدستورية وهم في الوقت نفسه الدليل على أنها ليست نهاية المعركة وإنما تصعيد لها تخسر فيه الطبقة الحاكمة باقي شرعيتها وآخر أقنعتها: قناع الإصلاح من الداخل.

في كتابه الأمير يقول مكيافيللي إن أي حاكم يريد لحكمه الاستقرار لابد له من أن يجمع بين قوة الأسد ودهاء الثعلب. بمعنى آخر، وباستخدام لغة السياسة المعاصرة، لابد له من سلطة قمع وردع من ناحية وشرعية نابعة من الإقناع من ناحية أخرى. والتعديلات الدستورية تكشف آخر خدع الثعلب. وبحسب أمير مكيافيللي لا يمكن لأمير يبني حكمه على القوة فقط أن يحفظ استمراره ولا استقرار سلطته.

المعركة إذن، بالنسبة لمن يرون أنفسهم جزءا من هذا الصراع الاجتماعي، لم تنته أبدا ولم تحسم أبدا. المعركة انتقلت لمستوى آخر. والتحدي هنا بالنسبة لهؤلاء هو التعلم من أخطاء حركة التغيير في أعقاب الحادي والعشرين من مارس 2003: لا أمل لأي حركة معزولة عن قاعدة الفعل والنضال الاجتماعي الحقيقي القاعدي وكل الأمل لمن يرصون صفوفهم في نضالات قلعة الكبش والمحلة وبوليفارا.

نحو بناء حركة مناهضة للعولمة الرأسمالية في مصر

بقلم:
وائل جمال
مارس 2006
الاصدار: أوراق اشتراكية


كان وصول أحمد نظيف لرئاسة الوزارة منذ ما يقرب من عامين إشارة على نجاح الجناح النيوليبرالي المتطرف في الطبقة الحاكمة في فرض سيطرته على السياسة الاقتصادية، وبمرور الوقت بانت أبعاد الهجمة الطبقية الأكثر توحشًا في التاريخ المعاصر لمصر. في هذا الإطار تبدو الحاجة ملحة لبناء أوسع حركة قاعدية ممكنة ضد العولمة الرأسمالية في مصر. وائل جمال يدافع عن ضرورة وإمكانية خلق مثل هذه الحركة.

عندما تم تعيين أحمد نظيف رئيسًا للوزارة في يوليو 2004 استقبلت دوائر الأعمال في الداخل والخارج الخبر بترحاب شديد. وعلى مدى العشرين شهرًا التي قضتها حكومة صقور اليمين النيوليبرالي في السلطة شنت أوسع برنامج تحرير اقتصادي على خطى سياسات إجماع واشنطن (وهي السياسات التي تروج لها مؤسسات صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ووزارة الخزانة الأمريكية لصالح التحرير الكامل للأسواق وإنهاء دور الدولة في الاقتصاد وفتح الأسواق). برنامج يشابه في اتساع نطاقه وفي عدوانيته وشموله وسرعته ما تم تنفيذه من سياسات في أمريكا اللاتينية في التسعينيات. وهكذا تم إحياء وتسريع عملية الخصخصة في إطار برنامج يبدو أنه لن يتوقف عند حدود قطاع أو صناعة أو خدمة، وبدأت عملية إعادة هيكلة الدعم، وأعطى رجال الأعمال الضوء الأخضر. ليس هذا فقط، بل طور هذا الجناح نفوذه السياسي على الطبقة الحاكمة بوجود مكثف لرموزه ولرجال الأعمال في الحكومة وفي مجلسها النيابي الذي يفوق عدد رجال الأعمال فيه المائة عضو.

ويتداخل في هذا البرنامج الداخلي والخارجي بأوضح ما يكون. فمن ناحية هو تطبيق صريح لسياسات إجماع واشنطن التي حركت موجة الغضب العالمية ضد الليبرالية الجديدة، وفي مقدمتها نضالات أمريكا اللاتينية نفسها. وهي بهذا المعنى تجسيد لتوجه عالمي أصيل لدى يمين البرجوازية العالمية. ومن ناحية أخرى يظهر هذا التداخل بين الخارج والداخل بما يمثله البرنامج من سياسات تفتح الباب لاندماج الاقتصاد المصري في الاقتصاد العالمي بفتح الباب على مصراعيه للاستثمار الدولي والشركات العابرة للقوميات. ويمكن اعتبار الخصخصة وإجراءات تشجيع الاستثمار وقوانين الجمارك والضرائب الجديدة أعمدة أساسية لهذا التداخل.

أما على جبهة تحرير التجارة والخدمات فيدافع الصقور عن سياسة أكثر جذرية في فتح الأبواب والتوقيع على التزامات منظمة التجارية العالمية بل وحتى الضغط على باقي الدول النامية في هذا الإطار. وبينما تتحرك وزارة التجارة المصرية التي يقودها وزير من موظفي شركة عابرة للقوميات وأحد الشركات بها بسرعة لتنفيذ هذه الالتزامات بل وتطعيمها باتفاقيات من نوعية الكويز والتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، تفرض حالة من التعتيم على الآثار العنيفة لمثل هذه السياسات على قطاعات واسعة من المصريين الفقراء: رفع أسعار الخدمات الرئيسية كالمياه والكهرباء والتعليم والصحة واستبعاد شرائح واسعة من الفقراء منها. تدمير قطاعات صناعية محلية لصالح الشركات العابرة للقوميات – كما يحدث في صناعة الغزل والنسيج مثلاً – وهو ما يعني تصفية آلاف العمال ورفع معدلات استغلال الذين يستمر توظيفهم.

فراغ في جبهة المقاومة:

وتأتي هذه التطورات بالغة الخطورة على خلفية فراغ هائل على جبهة المقاومة المحتملة. فحتى في الدول النامية – في إطار حركة مناهضة العولمة وخارجها – يلعب المجتمع المدني الدور الأكبر في المواجهة، حيث تقود جمعيات الصيادين ونقابات العمال واتحادات الفلاحين وجمعيات حماية المستهلكين حركة مقاومة بهذا القدر أو ذاك، وتلعب مثل هذه الجمعيات والاتحادات دورًا هامًا في التنسيق محليًا وعالميًا لوقف هذه السياسات وتعطيلها وفضحها.

وفي مصر، ومع غياب مثل هذا الدور الفاعل للمجتمع المدني لسبب أو لآخر، وعدم تبلور هذه القضايا على جدول أعمال الحركات البازغة (التضامن مع الانتفاضة ولرفض الاحتلال العراقي، وحركة التغيير الديمقراطي، أو حتى محاولات بناء جنين لمقاومة عمالية) فإن الساحة مفتوحة تمامًا للطبقة الحاكمة للحركة وتنفيذ مخططاتها. هذا الفراغ يجب ملؤه بأسرع وقت ممكن. وقد يكون البدء في بناء حركة مصرية شعبية لمناهضة العولمة الرأسمالية خطوة على طريق تنظيم مثل هذه المقاومة ولو بصورة دفاعية. لكن حركة من أي نوع بالضبط؟ وهل يمكن تجاوز الطابع النخبوي الذي تستدعيه إلى الذهن فكرة مناهضة العولمة؟

دروس من الوضع الراهن للحركة العالمية:

بدأت الحركة العالمية لمناهضة العولمة (أو كما أفضل تسميتها: حركة مناهضة العولمة الرأسمالية) كحصيلة لعشرين عامًا من النضالات المتفرقة البطولية ضد الليبرالية الجديدة وسياستها الاقتصادية المعادية لعمال والفقراء في العالم شماله وجنوبه. أي أن ما دشنته أحداث سياتل وإفشال مؤتمر منظمة التجارة العالمية في نهاية 1999 كان نتاجًا لهذه المقاومة بداية لمرحلة جديدة منها ضد نفس السياسات التي يواجه عمال وفقراء مصر طبعتها المتطرفة في العشرين شهرًا الماضية. لكن الحركة عند ولادتها تحمل العديد من العناصر غير القابلة للتكرار في مصر لا في الست سنوات الماضية ولا الآن. فالدفعة الهائلة التي تلقتها الحركة من خلال المنتديات الاجتماعية العالمية والمحلية، ومن خلال النشاط الهائل لجمعيات المجتمع المدني في شتى القضايا من الحماية التجارية لأنصار البيئة أو الأقليات العرقية.. إلخ، غائبة في مصر. كما أن الشكل التنظيمي للحركة العالمية ليس له أساس في مصر فهو شكل مصمم لاستيعاب أكبر عدد ممكن من المنظمات والجمعيات وهو وضع غير موجود بالمرة في مصر التي دمرت ديكتاتورية مبارك فيها مؤسسات المجتمع المدني تاركة الباقي منها غالبًا في مواجهة غير متكافئة.

لكن هذا التباين بين ظروف وسياق نمو الحركة في لحظة صعودها تلك وبين الظروف في مصر قد تراجع مع تراجع الحركة في السنتين الماضيتين. والمفارقة هنا أن تحول طبيعة الحركة العالمية وتطوراتها – بل وأزمتها – في السنتين الماضيتين قد تشكل نقطة للبدء في مصر. فإذا كان زخم الحركة قد تراجع بحيث لم نشهد جنوة أخرى أو سياتل أخرى في الفترة الأخيرة وتراجع وهج الحركة المناهضة للحرب على العراق والتي خرجت من رحم حركة مناهضة العولمة الرأسمالية، فإن الحركة لم تتوقف لكنها بدأت تواجه معضلات فرضت عليها مناقضة ومراجعة بعضًا من الأسس التي قامت عليها. فمن ناحية فرض السياسي نفسه على الحركة. وإذا كانت الحرب على العراق ذروة هذا الوضع ففي كل محطة للحركة في السنوات الأخيرة كانت السياسة على الأجندة. ويمكن هنا الإشارة لمعركة إسقاط الدستور الأوربي (تجسيد الاندماج الأوربي على هدى الليبرالية الجديدة)، أو إيقاف اتفاقية التجارة الحرة في أمريكا اللاتينية في قمة بيونس آيرس في الأرجنتين مؤخرًا.

ومن ناحية أخرى كان التطور الثاني في الحركة هو أن طابع تحركاتها أصبح يغلب عليه الطابع المحلي أكثر من الطابع العالمي. حقيقي أن وجود الحركة العالمية ملموس إلا أن مركز الطاقة المحركة انتقل لقوى محلية – قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى في أدنبره العام الماضي مثلاً والتي بالمقارنة بجنوة مثلاً كأنها صارت معركة محلية تعبر عن تجذر الشعور المعادي لليبرالية الجديدة في أسكتلندا. وأضفى هذا الوضع سمات جديدة على استهداف قمم ومؤتمرات المؤسسات المالية الدولية التي كانت مركز الحركة في السابق.

هذا الوضع الجديد يفرض على الحركة العالمية مراجعة فكرة استبعاد السياسة من أفقها ويفرض عليها أيضًا إعادة النظر في أسلوب عمل المنتديات التي لا تتيح للحركة فرز أولوياتها والتحرك بسرعة وفعالية في اتجاهها. فلم يعد من الممكن للحركة، كما يشير الاشتراكي الثوري البريطاني كريس ناينهام في مقال حديث له (أنظر عرض المقال ص 26)، التقدم للأمان بدون اجتذاب الملايين للتحرك وهو ما لا يمكن عمله لا باستبعاد السياسة (التي صار الجمهور يفرضها فرضًا في تحركات مناهضة العولمة مؤخرًا) ولا بالاقتصار على الدعاية العامة ضد الليبرالية الجديدة. بل أن التجارب الناجحة في إطار الحركة قد بنيت على العكس تمامًا فانبنت على حملات واسعة للتعبئة على قضية واحدة محددة كالدستور الأوربي.

وهكذا فإن نوع الحركة المطلوب يجب أن ينبع من معكوس ما انبنت عليه الحركة العالمية في بدايتها. يجب ألا تتجاهل السياسية وكل المناقشات الخاصة بها لكن في إطار العمل المشترك والجبهات الواسعة، لكنها أيضًا لكي تجذب أوسع جمهور ممكن ممن لهم مصلحة حقيقية في الوقوف ضد الليبرالية الجديدة فإن عليها أن تكون قادرة على تحديد أولويات حركتها بدقة. يجب أن تكون قادرة على تحديد أي الحملات هي المركزية في هذه اللحظات للتعبئة والحشد ولإنجاز أكبر تعطيل ممكن للمشروع الليبرالي الجديد أو حتى إعطابه. هذا الإطار العام يصلح بامتياز للانطلاق منه في مصر.

بناء حملة ضد الخصخصة في مصر:

لماذا الخصخصة كنقطة البدء؟ الحقيقة أن الخصخصة هي العنوان الرئيسي في الهجمة النيوليبرالية في مصر. ويتقاطع البرنامج الطموح الذي يمثل أكبر عملية بيع في تاريخ برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري مع باقي جوانب المشروع النيوليبرالي برمته. بل يمكن القول إنه العمود الأساسي له. فبرنامج الخصخصة هو الطريق الأساسي لاقتحام الشركات عابرة القوميات والشركات العربية الكبرى لقطاعات الخدمات وللصناعة عبر خصخصة الأولى وبيع الشركات العامة في قطاعات كالأسمنت الذي تسيطر الشركات العابرة للقوميات على تسعين في المائة من إنتاجه بالفعل. وهو أيضًا الطريق لإنعاش الاستثمار الأجنبي المباشر – وهو بهذه الصورة واحد من حلقات دفع التراكم الرأسمالي. أيضًا الخصخصة هي وسيلة لزيادة معدلات الاستغلال بزيادة الإنتاجية وتقليص نفقات العمل عبر تصفية جزء من العمالة بإعادة هيكلة الشركات قبل بيعها. عملية الخصخصة أيضًا هامة في تدعيم سلطة ونفوذ القطاع الخاص والجناح السياسي الذي يمثله مباشرة في الطبقة الحاكمة على حساب البيروقراطية التي شكلت مركز قوة رئيسي في الطبقة الحاكمة على مدى فترة حكم مبارك. (أنظر قضية بيع البنك المصري الأمريكي لمجموعة يمتلكها وزيرا النقل والإسكان).

ولا يقتصر الأمر على هذا. فبوادر المقاومة قد ظهرت بالفعل على الساحة العمالية. وفي محطاتها الرئيسية: إضرابات إسكو وطرة للأسمنت وغزل شبين، بدا واضحًا ما يمكن أن يفرزه توسع البرنامج الذي رغم أنه تسارع بمعدلات كبيرة في الفترة الماضية، إلا أنه ما زال ينتظر دخول قطاعات الاتصالات والبنوك والمواصلات والسكك الحديدية، إلى جانب عدد من المعاقل الصناعية الكبرى والعمالية الكبرى أيضًا كالحديد والصلب ومجمع الألمونيوم وغيرها.

بهذا فإن البدء في أوسع حملة ضد الخصخصة تنطلق منها لتفضح مجمل المشروع الليبرالي الجديد المعلوم وتبني جنين المقاومة الشعبية له يصبح ضرورة يجب أن يتقدم لها النشطاء ضد العولمة الرأسمالية. وهكذا تكتسب الحملة التي يدشنها المنتدى العمالي بمؤتمر القاهرة أهمية بالغة في هذا السياق. حيث يمكن أن تكون هذه الحملة التي يجب أن تضم أوسع نطاق ممكن من القوى المعادية لهذا البرنامج هي نقطة الانطلاق على طريق بناء حركة شعبية قاعدية ضد العولمة الرأسمالية في مصر.