انتفاضة ١٨ و١٩ يناير بين الأمس واليوم
وائل جمال
ما أشبه الليلة بالبارحة. منذ ثلاثين عاما بالتمام والكمال وفي مساء يوم ١٧ يناير ١٩٧٧ وقف عبد المنعم القيسوني – نائب رئيس الوزراء ورئيس المجموعة الاقتصادية – أمام مجلس الشعب، ليعلن عن قيام الحكومة باتخاذ مجموعة من القرارات الاقتصادية "الحاسمة والضرورية" التي تهدف إلى خفض العجز في ميزان المدفوعات، وذلك تحت ضغط الصندوق والبنك الدوليين، ومن أجل توقيع اتفاق معهما. كانت المحصلة الرئيسية لهذه القرارات هي تحميل الفقراء من المصريين أعباء مالية تقترب من ٥٠٠ مليون جنيه سنويًا، تدفع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، على شكل زيادة في أسعار جميع السلع الضرورية. باختصار، حدثت زيادة مباشرة في أسعار الخبز والسجائر البنزين والبوتاجاز والسكر والدقيق الفاخر والذرة والسمسم والحلاوة الطحينية والفاصوليا واللحوم المذبوحة والشاي والأرز والمنسوجات والملبوسات، بنسب تتراوح ما بين ٣٠ % إلى ٥٠ %. واليوم، وتحت مظلة نفس القرارات الحاسمة والضرورية لدفع الاستثمار وتخفيض عجز الموازنة، قلصت الدولة الدعم على مدى أكثر من عقد وتمضي قدما في تحرير خدمات الكهرباء والمواصلات والمياه وغيرها ملقية بعبء هائل إضافي على مستويات معيشة الفقراء المتدهورة أصلا. بل إن الصحف تنشر تقارير عن خطط مقبلة في الأسابيع القادمة لرفع سعر رغيف الخبز ليصل إلى عشرين قرشا.
في يناير ١٩٧٧ انفجرت انتفاضة جماهيرية هائلة على مدار يومين كاملين، وبامتداد جميع المدن الرئيسية في مصر، لتسبب ذعرًا هائلاً داخل السلطة الساداتية، اضطرها إلى التراجع السريع عن جميع قراراتها، واتخاذ مجموعة من التدابير القمعية. فقامت بفرض حظر التجول، وإنزال الجيش إلى المدن لقمع المظاهرات، بعد أن عجزت قوات الشرطة عن ذلك، وتم اعتقال المئات من الكوادر السياسية والآلاف من المتظاهرين. فما الذي يمكن أن يحدث الآن؟ هل هناك إمكانية لانتفاضة شبيهة؟ ولماذا لم تحدث على مدى سنوات حكم مبارك الأخيرة التي تجاوزت فيها سياسات الطبقة الحاكمة مستويات ١٩٧٧ بما لا يقاس؟
الرأسمالية والتوازن الطبقي
بينما خلقت الثلاثون عاما التي مضت منذ انتفاضة يناير العديد من الاختلافات في تركيب وموقع الرأسمالية المصرية في السوق العالمي، فإن هناك عددا من العناصر المتشابهة بشكل مدهش بين اللحظتين.
كانت اللحظة الأولى (يناير ١٩٧٧) هي لحظة بدء تبلور التحول من نظام رأسمالية الدولة إلى نظام السوق المفتوح بعد الفشل المبكر لمشروع رأسمالية الدولة، الذي بدأه عبد الناصر، على المستوى الاقتصادي والضربة القاضية سياسيًا لهذا النظام في يونيو ١٩٦٧ ثم حسم الخلاف داخل الطبقة الحاكمة حول منهج المضي قدما. هذا التحول كان مقترنا بتحول موازي في الرأسمالية العالمية التي شهدت رأسمالية الدولة فيها عموما (في الكتلتين الشرقية والغربية) أزمة عنيفة بعد كساد ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو تحول تنامى حتى ذروته في الريجانية والتاتشرية مع نهاية السبعينيات. وبين ضرورات تجاوز الأزمة الاقتصادية وسعي البرجوازية المصرية لإعادة الوفاق مع قيادات التحول ممثلة في الإمبريالية الأنجلوفونية بقيادة الولايات المتحدة جاءت سياسات رفع الدعم وتحرير الأسعار.
والآن فإن برنامج الاندماج الذي كان في بدايته وقتذاك، ينفذ على قدم وساق بقيادة مجموعة من صقور اليمين. لكن المشكلة أنه غير ناجح. فالرأسمالية المصرية التي تأخرت كثيرا في إنجاز ما كانت تأمل فيه بالاندماج السريع في الرأسمالية العالمية (جزئيا بسبب ما حدث في ١٩٧٧) مازالت تجيء في الذيل رغم كل ما حققته في الثلاثة عقود التي تلت. وإذا كانت اللحظتان تتشابهان في أنهما شهدا بوادر نمو اقتصاد قوي (في ١٩٧٧ بسبب رفع عبء الحرب التي انتهت وبسبب تحويلات العاملين في الخليج، والآن بسبب ارتفاع أسعار البترول وقناة السويس مما وصل بمعدل النمو لتجاوز الخمسة في المائة لأول مرة منذ سنوات) فإن النمو في اللحظتين كان حكرا على البرجوازية وموجها بشكل حصري لأغراض التراكم.
ففي الفترة من ١٩٧٣ إلى ١٩٧٦ ارتفعت تكلفة المعيشة بنسبة ٤٢ %، وخلال عام ١٩٧٦ وحده ارتفعت تكاليف المعيشة بنسبة ١١.٢ %. وتشير دراسة لمنظمةالعمل الدولية جرت عشية الانتفاضة إلى أن ٤٤ % من المصريين كانوا يعيشون تحت خط الفقر مع تراجع نصيب الأجور في الناتج القومي في الصناعة منذ سنة ١٩٧٥ بشكل واضح. كما زادت الهوة بين الريف والمدن. فخلال الفترة من ١٩٦٦ / ١٩٦٧ إلى ١٩٧٨ ارتفعت تكاليف المعيشة في المدن بنسبة ١١٢.٦ % في حين كان الارتفاع في الريف ١٣٨.٤ %. وتفوقت أيضًا القاهرة على المدن الإقليمية في مجال الإنشاء والمساكن فحظيت بأكثر من نصف ما تم بناؤه في هذه الفترة.
والآن فإن تقارير مؤسسات كوحدة الاستخبارات الخاصة بمجلة الإيكونوميست البريطانية تؤكد على أن هناك إمكانيات للنمو الاقتصادي في مصر (صحيح أنه أقل من المستويات الإقليمية ومستوي النمو في الدول النامية عموما لكنه يزيد بالمقارنة بمعدلاته المصرية). إلا أن هذه التقارير التي ترصد مستويات المخاطرة تؤكد على أن العامل الأول في هذا الإطار هو الإحباط الاجتماعي الاقتصادي. وبرصد مستويات الفقر والتدهور في مستويات المعيشة فإن الأزمة في اللحظة الحالية أعمق بكثير في المدى الذي وصلت إليه. لكن هناك فارقا أساسيا هنا.
درس ٧٧
في ١٩٧٧ أقدم النظام بتهور شديد على القيام بهذه التحولات بنظام الصدمات الكهربائية، على الرغم من قيام مجموعة احتجاجات في مواقع عمالية مختلفة في عامي ٧٥ و٧٦ كان من المفترض أن تكون صفارات إنذار تردع النظام عن المضي قدمًا في هذا الاتجاه. ولكن استعصاء الأزمة وحتمية التحول، إلى جانب الغرور الذي انتاب السادات بعد حرب أكتوبر دفعته دفعًا للمضي قدمًا. لكن ما حدث في الانتفاضة ترك أثرا غائرا غير تكتيكات البرجوازية إلى الأبد. وهكذا، فعلى مدى عصر مبارك اتبع نظامه منهجا تدريجيا يمزج بين التمهيد وجس النبض وتمرير السياسات دون دعاية مسرحية كالتي حدثت وقت السادات. بل ومع تزايد ضرورات تسريع سياسات الخصخصة والتحرير الاقتصادي "النيوليبرالية" التي تتم الآن، فإن ذلك لا يتم دون دراسات معمقة حول أساليب التنفيذ وردود الفعل الجماهيرية. وأبرز مثل على هذا، ما قام به مركز دعم القرار بمجلس الوزراء (بالتعاون مع البنك الدولي) بخصوص رفع الدعم. حيث قام بعمل استقصاءات رأي وصياغة لعدد من الأساليب المختلفة، بل واقتراح تكتيكات متعددة للتعامل مع ردود الفعل المتوقعة. وحتى هذه اللحظة أثبت هذا الأسلوب نجاحا بالغا في حماية النظام من أي انفجارات مشابهة لسبعة وسبعين. لكن هل يمكن أن يضمن هذا الأسلوب نزعا دائما لفتيل الانفجار؟
الحقيقة أن أول العوامل التي يمكن أن تحدد الإجابة على هذا السؤال هو وضع الرأسمالية بمعيار ضرورات التراكم والمنافسة والاندماج، من ناحية، ومدى تماسكها وشرعيتها من ناحية أخرى. فكما كانت برجوازية ٧٧ مدفوعة ببرنامجها الجديد وبرغبتها في مهادنة سريعة مع الرأسمالية العالمية وبأزمة التحول من رأسمالية الدولة، فإن برجوازية ٢٠٠٧ مدفوعة بنهمها للتغلب على أزمة تأخرها عن منافسيها حتى في الشرق الأوسط. وإذا كانت معدلات النمو المصرية قد بدأت في الارتفاع توافقا مع المعدلات العالمية والإقليمية، فإن توقعات صندوق النقد تؤكد أن المعدلات العالمية قد تأخذ في الانخفاض بدءا من العام الجاري وذلك مع تراجع نمو الولايات المتحدة. ويتضاءل حجم كعكة الاستثمارات الأجنبية المباشرة مع تحولها لأن تصبح بالأساس عمليات اندماج واستحواذ على أصول موجودة بالفعل. وإذا وضعنا ذلك مع تراجع أسعار البترول الذي بدأ يحدث فعلا فإن ضغوط المنافسة الدولية ستزيد لتكشف عورات التراكم الرأسمالي في مصر(الممثلة في نقص الإنتاجية وضعف القدرة التنافسية الحقيقية وتضاؤل الاستثمارات المنتجة الجديدة). هذا الوضع يجعل إمكانية التراجع أضعف، وقد يفرض ضغوطا إضافية لدفع عمليات التحرير الاقتصادي على حساب الفقراء. وإذا كان هذا هو الوضع في الناحية الأولى، فالثانية أسوأ بما أثاره سيناريو التوريث وفشل النظام على مدى السنوات الماضية من تآكل عنيف حتى الجذور لأي شرعية للنظام والذي يبدو عقمه السياسي وعدم قدرته على استيلاد بديل مستقبلي واضحا للجميع.
لكن ذلك لا ينتج انتفاضة كيناير سبعة وسبعين من تلقاء ذاته. وإنما ينتج ذلك من وضع التوازن الطبقي عموما وحالة الحركة الجماهيرية المضادة.
غضب وجنين حركة عمالية
من الغريب أنه في سبعة وسبعين والآن يمكنك أن تلاحظ في الصحافة الرسمية وفي تصريحات المسئولين انفصاما تاريخيا مع واقع البشر على الأرض. ففي الحالتين ترصد الصحافة رخاءا وهميا لا يحس به أحد. وتتناقض هذه الحالة وقتها كما هو الآن مع تصاعد بذور حركة احتجاجية، خاصة في الساحة العمالية.
في ١٩٧٧ صاحب ذلك التدهور في الأحوال المعيشية صعود في الاحتجاجات العمالية الكبيرة خلال عامي ١٩٧٥ و١٩٧٦. ففي مطلع يناير ١٩٧٥، خرج عمال المصانع الحربية في حلوان في مظاهرات واسعة. وفي مارس حدث إضراب كبير في المحلة الكبرى. وخلال نفس العام حدث إضرابان مهمان بين عمال النسيج في الإسكندرية وعمال شركة الكابلات في شبرا الخيمة. وشهد عام ١٩٧٦ إضراب عمال النقل البري كما شهد إضرابا عماليا واسعا في مدينة كفر الدوار. وأيضًا اندلعت صدامات عنيفة بين الأهالي وقوات الأمن في كلا من مدينتي المنزلة وبيلا في نفس العام. ولم تستطع الوعود البراقة التي قطعتها الحكومة على نفسها في مطلع يناير ١٩٧٧ بتحسين الأحوال المعيشية – كما يظهر في عناوين صحف ذلك الوقت -، كبح جماح الغضب المتراكم في نفوس الجماهير العمالية على مدار السنوات السابقة. وكان طبيعيا في هذا الإطار أن تأتي شرارة الانتفاضة من العمال.
واليوم، يمكن رصد الصعود المتواصل لحركة الاحتجاج العمالي في السنوات الأخيرة والتي بدأت تأخذ في الشهرين الماضيين منعطفا جديدا بانتصار عمال المحلة والذي تبعه إضرابات واعتصامات منتصرة في ورش السكك الحديدية وللسائقين وأسمنت طرة ثم الإضراب التباطؤي الذي تعتم عليه الحكومة لمرشدي قناة السويس. ويتلو هذا التحول صعود حركات التغيير واحتجاجات غيرمعهودة فلاحية وفي أوساط مهنيي الطبقة الوسطى من أطباء ومدرسين وصيادلة بل والقضاة.
هذا الوضع يشير إلى أن لتكتيكات التدريج حدودا تجعل احتمالات انتفاضة جائعين جديدة في ألفين وسبعة قائمة لكن حدوثها ونجاحها يرتبط أكثر بعوامل الضعف التنظيمي التي كشفت عنها انتفاضة سبعة وسبعين.
اليسار والعفوية والحركة الاجتماعية
في يناير ٧٧ كانت الانتفاضة عفوية بالأساس برغم كل الاتهامات التي كالتها الطبقة الحاكمة في مصر للحركة الشيوعية وغيرها ممن وصفتهم بقوى محرضة وخالقة لها. وفي الغالب سيكون الأمر كذلك في الانتفاضة المنتظرة. هذا الطابع العفوي كان له دور هائل مع تراجع الحكومة السريع في عدم تطوير الأمور إلى ثورة اجتماعية وسياسية أكثر تجذيرا. والآن فإن أغلب هذه السمات مازالت موجودة إن لم تتطور للأسوأ. فالحركة العمالية بلا تنظيم نقابي ومعزولة عن بقايا القوى السياسية الموجودة وبالتأكيد عن تأثير اليسار. والقمع الذي كان سلاحا أساسيا لنظام السادات في إخماد الانتفاضة مازال موجودا ولا تتورع الطبقة الحاكمة عن استخدامه بأقصى صوره حينما تستدعي الحاجة.
وإذا كانت أغلب الكتابات اليسارية عن ٧٧ تحمل اليسار مسئولية فشلها مرتكبة بذلك خطأ الوقوع في استبدالية شديدة بتصور أن قلة تستطيع قيادة الحركة الجماهيرية المنفجرة بين يوم وليلة للانتصار، فإن دور اليسار برغم ذلك حاسم. فوجود يسار منظم ومصمم على الاشتباك مع جنين الحركة العمالية وواعي تماما بدوره، لا في تبوأ القيادة بشكل قدري رومانسي وإنما في القتال في صفوف الجماهير لتوسيع النفوذ والتأثير وتجذير الحركة، لا غنى عنه. وهي مهمة تفرض نفسها علينا الآن وحالا.
نشرت في جريدة الاشتراكي، العدد ١٥، يناير ٢٠٠٧
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق