السبت، 5 فبراير 2011

الجماهير..كقوة لا يمكن إيقافها


وائل جمال

"نقل التليفزيون مشاهد لمئات المتظاهرين ـ أغلبهم من النساء والأطفال ـ عند سوبر ماركت صارخين: نريد أن نأكل ! نريد أن نأكل. كما سرقت مئات محلات السوبر ماركت خلال اليوم بجميع أنحاء الدولة.

بدأت الحكومة ووسائل الإعلام فى الحديث عن الفوضى السائدة وعن ضرورة إعادة النظام إلى الشوارع. صرح الرئيس على شاشة التليفزيون أنه قد فرض حالة حظرالتجول. فحرم المواطنون من حقوقهم المدنية وأصبح تجمع أكثر من شخصين شغبا بالقانون.

بمجرد انتهائه من الخطبة ، بدأ بعض الجماهير بطرق الأواني فى بيوتهم. كان هذا الشكل من الاحتجاج ( ساسيرولازو ) شائعا في نهاية ديكتاتورية الجيش. لكنه امتد بعد ذلك في الشوارع ليصبح عملاً منظماً ففي خلال ساعة واحدة، قام مليون مواطن بتحدي حالة الحصار.

بحلول منتصف الليل، امتلأ ميدان بلازا دومايو وقام الآلاف باستبدال الصرخة البائسة : نريد أن ناكل بالصرخة الأكثر عدوانية: أخرجوهم. لم تقتصر إشارتهم على الحكومة فحسب لكنها شملت البناء السياسى ككل".

تصف هذه الكلمات اللحظات الأولى من الانتفاضة الأرجنتينية في مطلع العقد الأول من الألفية الثانية لكن الشبه خارق بينه وما شهدته مصر في الأيام الأخيرة.

من الثلاثاء للسبت، تحولت جماهير المصريين من كتلة ساكنة غير متجانسة يتنافس الجميع على الحديث باسمها، نظاما ومعارضة، وعلى إدعاء التعبير عنها وعن مصالحها، إلى القوة السياسية الأهم والأكثر حيوية، والأعلى وعيا وإصرارا في الدفاع عن قيم المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية. ظهر مارد الحشد الجماهيري ليواجه بصدور عارية رصاص الديكتاتورية وقنابله المسيلة للدموع وكتيبة أفكاره، التي فقدت جميعها فعاليتها في لحظة، تاركة التوازن السياسي يميل بشدة في اتجاه مطالب الناس.

والحقيقة أن ظهور الحشد الجماهيري المصري كقوة سياسية لا يمثل حدثا استثنائيا في الساحة السياسية العالمية. فعلى مدى العقدين الماضيين شهدت الأرجنتين وصربيا وإندونيسيا وتايلاند وفنزويلا والإكوادور وبوليفيا، وغيرها، ثورات جماهيرية أطاحت بحكومات ورؤساء ونظم. إلى جانب ذلك اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في فلسطين وظهرت حركة جماهيرية عالمية حشدت الملايين في جميع أنحاء العالم ضد الحرب على أفغانستان والعراق. كما ظهر ما سمي حركة مناهضة العولمة أو مناهضة الرأسمالية بصياغة بعض التيارات المنضوية فيها بعد أن دشنت نفسها في سياتل وجنوة.

كيف خلقت الليبرالية الجديدة الحشد الجماهيري الغاضب؟

إذا كان من سبب لهذه الظاهرة، التي لا يتم القاء الضوء عليها سياسيا لما تحمله من تهديد للأوضاع القائمة والمصالح المسيطرة، فهو التحول الهائل الذي شهدته آلة الرأسمالية العالمية منذ نهاية السبعينيات، فيما سمي بالسياسات الليبرالية الجديدة، بتداعياتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

هذه السياسات التي تقوم على تحرير الأسواق في الداخل والخارج، وإعلاء الأرباح على البشر، نفذت على مدى سنوات قليلة عملية نقل هائلة للثروة والسلطة من يد المجتمع وفقرائه إلى نخبة من أصحاب الأعمال، أممت الدولة بشكل حصري لمصالح هؤلاء ونمو أرباحهم وقدراتهم التنافسية مع نظرائهم في الدول الأخرى. كان معنى ذلك أن الدولة تركت عنها استقلاليتها النسبية عن الفئات المختلفة في المجتمع وانحازت لمصالح القلة مصورة إياهم على أنهم مدخل رخاء الجميع. فقدت الدولة بذلك قدرتها على اقناع الأغلبية على أنها وسيط بين الطبقات الاجتماعية المختلفة. وعلى خلفية أزمة ممتدة للتراكم الرأسمالي، اشتعل الصراع الدولي على مصادر الأرباح، وكان من نتائجه أن كشفت الرأسمالية الأقوى في العالم عن وجهها العسكري البغيض في أفغانستان والعراق في محاولة لإثبات سيطرتها ودعم شركاتها الكبرى.

ومصر ليست استثناء من هذه التطورات العالمية، وإن لحقت بها متأخرة بعض الشيء. إذ حدث بها نفس السيناريو بحذافيره: حكومة تعلي شأن النمو الاقتصادي والأرباح على كل شيء واعدة بالرخاء في سنوات قليلة. نجاح مبهر من زاوية المؤشرات الاقتصادية ونمو تطلق عليه المؤسسات الاقتصادية الدولية تسمية تتراوح بين معجزة ونمور ونموذج. ومع هذه التطورات يزيد الفقر والتهميش والبطالة إلى درجات غير مسبوقة، فتنفجر الجماهير بعد سنوات. طابق هذا السيناريو إن شئت على الأرجنتين أو الإكوادور أو إندونيسيا أو تونس أو مصر، تجده هو نفسه في عناصره الأساسية تلك.

كيف تتحول الجماهير من الاقتصادي للسياسي؟

اللافت في الانتفاضة المصرية، ومن قبلها التونسية، ومن قبلها أغلب ثورات العقدين الماضيين أنها تندلع على خلفية مطالب اجتماعية واقتصادية تتعلق بالأسعار والبطالة والفقر والعدالة الاجتماعية. وعدل المصريون شعار "شغل، حرية، كرامة وطنية" التونسي، إلى "عيش، حرية، كرامة إنسانية". ثار المصريون كغيرهم ضد فساد رجال الأعمال. ثم تحولت الانتفاضة المصرية، كما حدث في التونسية والانتفاضات التي سبقتها، إلى النظام السياسي والقائمين عليه مطالبين برحيلهم. وفي الانتفاضة الأرجنتينية في 2000-2001، أسقطت الجماهير 3 رؤساء في شهور قليلة لعدم رضائها عن سياساتهم، وهو ما حدث أيضا في الإكوادور وإن على مدى سنة أو أكثر.

وقد كتبت الثلاثاء قبل الماضي في الشروق حول خصوصية الاحتجاج في ظل الديكتاتورية وكيف يمكن أن يتحول أي احتجاج مطلبي صغير إلى احتجاج سياسي، فما البال باحتجاج بحجم واتساع الذي شهدته مصر يوم الثلاثاء، والذي سرعان ما تحول إلى احتجاج سياسي بامتياز، بالرغم من الغياب شبه الكامل للقوى السياسية المنظمة.

وفي النموذج التونسي، لعب الانشقاق في صفوف النخب الحاكمة وفشل سياسات القمع، وانحياز جنود الجيش للمتظاهرين في الشارع ثم تبني قيادتهم لسياسة عدم قمع الانتفاضة، بسبب انتماء أغلب الجنود الاجتماعي للشرائح الفقيرة، دورا هائلا في حسم الموقف لصالح الحشد الجماهيري في مواجهة الديكتاتور ونظامه حتى اضطر للرحيل.

لكن عنصرا آخر لعب دورا مركزيا في نجاح الانتفاضة التونسية سياسيا، وهو اللجان الشعبية الجماهيرية التي تأسست بطول وعرض تونس، مبنية على مواقع العمل بقيادة القيادات القاعدية للاتحاد العام للشغل، الذي اضطرت قيادته الموالية للنظام لتحويل مواقفها لتتحول بعد ذلك إلى القيادة الأساسية التي تتفاوض باسم الحركة فيما تلا انهار نظام بن علي.

وبالرغم من الشجاعة والنبل والتضامن والصلابة التي عبر عنها الحشد الجماهيري الواسع الذي ضاق ذرعا بحكم مبارك خلال الأيام الماضية في مصر، فإنه إلى هذه اللحظة يفتقر إلى هذا النوع من الأشكال التنظيمية المبنية على مواقع العمل، والذي يعطيها تلك الدفعة التي لا يمكن إيقافها.

غياب السياسيين التقليديين

لقد وصل الزخم الجماهيري النبيل الذي ظهر في انتفاضات العقدين الماضيين ضد سياسات الليبرالية الجديد بتيار داخل حركة مناهضة العولمة إلى تبني أفكار تمجد الحشد في حد ذاته، وأنه حتى يمكنه السيطرة على المجتمع دون اسقاط الدولة بالمعنى السياسي فيما عبر عنه المفكران مايكل هارت وتوني نيجري في كتابين أحدهما تحليل للإمبراطورية في عصر الليبرالية الجديدة والثاني تمجيد للحشد الجماهيري النقي دون أحزاب ودون إيديولوجيا سياسية.

وفي مصر، نشهد من البعض احتفاء كبيرا بفكرة غياب السياسيين عن انتفاضة الغضب. وربما كان ذلك مبررا في ظل إدعاءات الدولة بأن الإنتفاضة مؤامرة داخلية أو خارجية، أو بسبب هزال قوى المعارضة وانتهازيتها وضعفها. لكن الحقيقة أن مد خطوط الانتفاضة التاريخية التي تشهدها مصر قد يحتاج لأكثر من الحشد الجماهيري المتمركز في الشارع.

من السياسي للمطلبي والاجتماعي مرة أخرى

وما يمكن أن نستقيه من التجربة التونسية في هذا الشأن هام للغاية. فهناك تطابق في أن الحشد الجماهيري كان شعبيا صرفا نقيا من تدخل خارجي أو قيادة من أحزاب أو قوى سياسية منظمة كمصر. فقد شاركت عناصرها في الأحداث كجزء من الحشد، تبعته ولم يتبعها. لكن الحشد التونسي خلق أدواته. اللجان الشعبية واللجان "الجهوية" لاتحاد الشغل أعطت الحشد الجماهيري قوة لا تضاهيها قوة على الأرض: قوة الإضراب عن العمل الذي يلغي السيطرة الاقتصادية لنخبة الحكم. وليس من الصدفة أبدا أن نظام بن علي سقط في هوة عميقة بإعلان الاتحاد العام للشغل عن الإضراب العام تحت شعار رحيل بن علي. وفي مصر مازالت قوة العمل غائبة بصفتها تلك عن انتفاضة الغضب.

ولا تقتصر أهمية القيادة الشعبية القاعدية المبنية على أماكن العمل، في المصانع والمستشفيات والمدارس والمصالح الحكومية..الخ، على إنجاز أهداف الانتفاضة الشعبية بما تمنحه لها من قوة لا تقهر، لكنها هي أيضا الضمان الأساسي لكي يمكن ترجمة الإنجاز التاريخي ، الذي أنجزه الشعب التونسي وتسعى له انتفاضتنا الغاضبة، باسقاط نخبة الحكم السياسية الفاسدة، إلى سياسات اقتصادية واجتماعية تحقق مصالح المنتفضين. إذ أنه لا أمل في انجاز ذلك إذا تنازل الحشد الجماهيري عن تلك الإمكانية، عن تلك الأداة التي تحوله إلى مارد نبيل إنساني لا يمكن أن يوقفه أحد.

نشرت في جريدة الشروق يوم الأحد 30 يناير

ليست هناك تعليقات: