السبت، 5 فبراير 2011

الجماهير..كقوة لا يمكن إيقافها


وائل جمال

"نقل التليفزيون مشاهد لمئات المتظاهرين ـ أغلبهم من النساء والأطفال ـ عند سوبر ماركت صارخين: نريد أن نأكل ! نريد أن نأكل. كما سرقت مئات محلات السوبر ماركت خلال اليوم بجميع أنحاء الدولة.

بدأت الحكومة ووسائل الإعلام فى الحديث عن الفوضى السائدة وعن ضرورة إعادة النظام إلى الشوارع. صرح الرئيس على شاشة التليفزيون أنه قد فرض حالة حظرالتجول. فحرم المواطنون من حقوقهم المدنية وأصبح تجمع أكثر من شخصين شغبا بالقانون.

بمجرد انتهائه من الخطبة ، بدأ بعض الجماهير بطرق الأواني فى بيوتهم. كان هذا الشكل من الاحتجاج ( ساسيرولازو ) شائعا في نهاية ديكتاتورية الجيش. لكنه امتد بعد ذلك في الشوارع ليصبح عملاً منظماً ففي خلال ساعة واحدة، قام مليون مواطن بتحدي حالة الحصار.

بحلول منتصف الليل، امتلأ ميدان بلازا دومايو وقام الآلاف باستبدال الصرخة البائسة : نريد أن ناكل بالصرخة الأكثر عدوانية: أخرجوهم. لم تقتصر إشارتهم على الحكومة فحسب لكنها شملت البناء السياسى ككل".

تصف هذه الكلمات اللحظات الأولى من الانتفاضة الأرجنتينية في مطلع العقد الأول من الألفية الثانية لكن الشبه خارق بينه وما شهدته مصر في الأيام الأخيرة.

من الثلاثاء للسبت، تحولت جماهير المصريين من كتلة ساكنة غير متجانسة يتنافس الجميع على الحديث باسمها، نظاما ومعارضة، وعلى إدعاء التعبير عنها وعن مصالحها، إلى القوة السياسية الأهم والأكثر حيوية، والأعلى وعيا وإصرارا في الدفاع عن قيم المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية. ظهر مارد الحشد الجماهيري ليواجه بصدور عارية رصاص الديكتاتورية وقنابله المسيلة للدموع وكتيبة أفكاره، التي فقدت جميعها فعاليتها في لحظة، تاركة التوازن السياسي يميل بشدة في اتجاه مطالب الناس.

والحقيقة أن ظهور الحشد الجماهيري المصري كقوة سياسية لا يمثل حدثا استثنائيا في الساحة السياسية العالمية. فعلى مدى العقدين الماضيين شهدت الأرجنتين وصربيا وإندونيسيا وتايلاند وفنزويلا والإكوادور وبوليفيا، وغيرها، ثورات جماهيرية أطاحت بحكومات ورؤساء ونظم. إلى جانب ذلك اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في فلسطين وظهرت حركة جماهيرية عالمية حشدت الملايين في جميع أنحاء العالم ضد الحرب على أفغانستان والعراق. كما ظهر ما سمي حركة مناهضة العولمة أو مناهضة الرأسمالية بصياغة بعض التيارات المنضوية فيها بعد أن دشنت نفسها في سياتل وجنوة.

كيف خلقت الليبرالية الجديدة الحشد الجماهيري الغاضب؟

إذا كان من سبب لهذه الظاهرة، التي لا يتم القاء الضوء عليها سياسيا لما تحمله من تهديد للأوضاع القائمة والمصالح المسيطرة، فهو التحول الهائل الذي شهدته آلة الرأسمالية العالمية منذ نهاية السبعينيات، فيما سمي بالسياسات الليبرالية الجديدة، بتداعياتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

هذه السياسات التي تقوم على تحرير الأسواق في الداخل والخارج، وإعلاء الأرباح على البشر، نفذت على مدى سنوات قليلة عملية نقل هائلة للثروة والسلطة من يد المجتمع وفقرائه إلى نخبة من أصحاب الأعمال، أممت الدولة بشكل حصري لمصالح هؤلاء ونمو أرباحهم وقدراتهم التنافسية مع نظرائهم في الدول الأخرى. كان معنى ذلك أن الدولة تركت عنها استقلاليتها النسبية عن الفئات المختلفة في المجتمع وانحازت لمصالح القلة مصورة إياهم على أنهم مدخل رخاء الجميع. فقدت الدولة بذلك قدرتها على اقناع الأغلبية على أنها وسيط بين الطبقات الاجتماعية المختلفة. وعلى خلفية أزمة ممتدة للتراكم الرأسمالي، اشتعل الصراع الدولي على مصادر الأرباح، وكان من نتائجه أن كشفت الرأسمالية الأقوى في العالم عن وجهها العسكري البغيض في أفغانستان والعراق في محاولة لإثبات سيطرتها ودعم شركاتها الكبرى.

ومصر ليست استثناء من هذه التطورات العالمية، وإن لحقت بها متأخرة بعض الشيء. إذ حدث بها نفس السيناريو بحذافيره: حكومة تعلي شأن النمو الاقتصادي والأرباح على كل شيء واعدة بالرخاء في سنوات قليلة. نجاح مبهر من زاوية المؤشرات الاقتصادية ونمو تطلق عليه المؤسسات الاقتصادية الدولية تسمية تتراوح بين معجزة ونمور ونموذج. ومع هذه التطورات يزيد الفقر والتهميش والبطالة إلى درجات غير مسبوقة، فتنفجر الجماهير بعد سنوات. طابق هذا السيناريو إن شئت على الأرجنتين أو الإكوادور أو إندونيسيا أو تونس أو مصر، تجده هو نفسه في عناصره الأساسية تلك.

كيف تتحول الجماهير من الاقتصادي للسياسي؟

اللافت في الانتفاضة المصرية، ومن قبلها التونسية، ومن قبلها أغلب ثورات العقدين الماضيين أنها تندلع على خلفية مطالب اجتماعية واقتصادية تتعلق بالأسعار والبطالة والفقر والعدالة الاجتماعية. وعدل المصريون شعار "شغل، حرية، كرامة وطنية" التونسي، إلى "عيش، حرية، كرامة إنسانية". ثار المصريون كغيرهم ضد فساد رجال الأعمال. ثم تحولت الانتفاضة المصرية، كما حدث في التونسية والانتفاضات التي سبقتها، إلى النظام السياسي والقائمين عليه مطالبين برحيلهم. وفي الانتفاضة الأرجنتينية في 2000-2001، أسقطت الجماهير 3 رؤساء في شهور قليلة لعدم رضائها عن سياساتهم، وهو ما حدث أيضا في الإكوادور وإن على مدى سنة أو أكثر.

وقد كتبت الثلاثاء قبل الماضي في الشروق حول خصوصية الاحتجاج في ظل الديكتاتورية وكيف يمكن أن يتحول أي احتجاج مطلبي صغير إلى احتجاج سياسي، فما البال باحتجاج بحجم واتساع الذي شهدته مصر يوم الثلاثاء، والذي سرعان ما تحول إلى احتجاج سياسي بامتياز، بالرغم من الغياب شبه الكامل للقوى السياسية المنظمة.

وفي النموذج التونسي، لعب الانشقاق في صفوف النخب الحاكمة وفشل سياسات القمع، وانحياز جنود الجيش للمتظاهرين في الشارع ثم تبني قيادتهم لسياسة عدم قمع الانتفاضة، بسبب انتماء أغلب الجنود الاجتماعي للشرائح الفقيرة، دورا هائلا في حسم الموقف لصالح الحشد الجماهيري في مواجهة الديكتاتور ونظامه حتى اضطر للرحيل.

لكن عنصرا آخر لعب دورا مركزيا في نجاح الانتفاضة التونسية سياسيا، وهو اللجان الشعبية الجماهيرية التي تأسست بطول وعرض تونس، مبنية على مواقع العمل بقيادة القيادات القاعدية للاتحاد العام للشغل، الذي اضطرت قيادته الموالية للنظام لتحويل مواقفها لتتحول بعد ذلك إلى القيادة الأساسية التي تتفاوض باسم الحركة فيما تلا انهار نظام بن علي.

وبالرغم من الشجاعة والنبل والتضامن والصلابة التي عبر عنها الحشد الجماهيري الواسع الذي ضاق ذرعا بحكم مبارك خلال الأيام الماضية في مصر، فإنه إلى هذه اللحظة يفتقر إلى هذا النوع من الأشكال التنظيمية المبنية على مواقع العمل، والذي يعطيها تلك الدفعة التي لا يمكن إيقافها.

غياب السياسيين التقليديين

لقد وصل الزخم الجماهيري النبيل الذي ظهر في انتفاضات العقدين الماضيين ضد سياسات الليبرالية الجديد بتيار داخل حركة مناهضة العولمة إلى تبني أفكار تمجد الحشد في حد ذاته، وأنه حتى يمكنه السيطرة على المجتمع دون اسقاط الدولة بالمعنى السياسي فيما عبر عنه المفكران مايكل هارت وتوني نيجري في كتابين أحدهما تحليل للإمبراطورية في عصر الليبرالية الجديدة والثاني تمجيد للحشد الجماهيري النقي دون أحزاب ودون إيديولوجيا سياسية.

وفي مصر، نشهد من البعض احتفاء كبيرا بفكرة غياب السياسيين عن انتفاضة الغضب. وربما كان ذلك مبررا في ظل إدعاءات الدولة بأن الإنتفاضة مؤامرة داخلية أو خارجية، أو بسبب هزال قوى المعارضة وانتهازيتها وضعفها. لكن الحقيقة أن مد خطوط الانتفاضة التاريخية التي تشهدها مصر قد يحتاج لأكثر من الحشد الجماهيري المتمركز في الشارع.

من السياسي للمطلبي والاجتماعي مرة أخرى

وما يمكن أن نستقيه من التجربة التونسية في هذا الشأن هام للغاية. فهناك تطابق في أن الحشد الجماهيري كان شعبيا صرفا نقيا من تدخل خارجي أو قيادة من أحزاب أو قوى سياسية منظمة كمصر. فقد شاركت عناصرها في الأحداث كجزء من الحشد، تبعته ولم يتبعها. لكن الحشد التونسي خلق أدواته. اللجان الشعبية واللجان "الجهوية" لاتحاد الشغل أعطت الحشد الجماهيري قوة لا تضاهيها قوة على الأرض: قوة الإضراب عن العمل الذي يلغي السيطرة الاقتصادية لنخبة الحكم. وليس من الصدفة أبدا أن نظام بن علي سقط في هوة عميقة بإعلان الاتحاد العام للشغل عن الإضراب العام تحت شعار رحيل بن علي. وفي مصر مازالت قوة العمل غائبة بصفتها تلك عن انتفاضة الغضب.

ولا تقتصر أهمية القيادة الشعبية القاعدية المبنية على أماكن العمل، في المصانع والمستشفيات والمدارس والمصالح الحكومية..الخ، على إنجاز أهداف الانتفاضة الشعبية بما تمنحه لها من قوة لا تقهر، لكنها هي أيضا الضمان الأساسي لكي يمكن ترجمة الإنجاز التاريخي ، الذي أنجزه الشعب التونسي وتسعى له انتفاضتنا الغاضبة، باسقاط نخبة الحكم السياسية الفاسدة، إلى سياسات اقتصادية واجتماعية تحقق مصالح المنتفضين. إذ أنه لا أمل في انجاز ذلك إذا تنازل الحشد الجماهيري عن تلك الإمكانية، عن تلك الأداة التي تحوله إلى مارد نبيل إنساني لا يمكن أن يوقفه أحد.

نشرت في جريدة الشروق يوم الأحد 30 يناير

الخميس، 3 فبراير 2011

بيان للشعب من معتصمين بالتحرير


أول القصيد: وعود الرئيس وأحداث الأربعاء 2 فبراير

نحن محتجون منذ 25 يناير الماضي، ومعتصمون في ميدان التحرير، ندين بشدة الاعتداء الغاشم الذي نفذته مرتزقة الحزب الوطني علينا في مقر اعتصامنا يوم الأربعاء 2 فبراير تحت غطاء المظاهرة المؤيدة للرئيس لمبارك ويستمر العدوان يوم الخميس 3 فبراير. ونأسف لدخول البعض من شباب مصر مع البلطجية والمجرمين ممن اعتاد الوطني تأجيرهم في الانتخابات، وساقوهم علينا بعد أن أشاعوا اكاذيب عديدة يروجها النظام وإعلامه بخصوصنا وبخصوص اهدافنا المنادية بتغيير للنظام السياسي يكفل لنا ولجموع المواطنين الحرية وكرامة العيش والعدالة الاجتماعية، والتي هي ايضا من اهداف هذا الشباب، ولذلك نريد توضيح الاتي:

أولا، نحن مجموعة من شباب مصر مسلمين ومسيحيين، أغلبيتنا الكاسحة لا تنتمي لأحزاب سياسية ولا لها نشاط سياسي من قبل. حركتنا ضمت شيوخا وأطفالا، فلاحين وعمال ومهنيين، طلبة وموظفين على المعاش. حركتنا لا يمكن تصنيفها على أنها مدفوعة أو محركة من قلة بحكم الملايين الذين استجابوا لشعاراتها باسقاط النظام، وانضموا اليها يوم الثلاثاء الماضي في القاهرة والمحافظات، في حدث لم يشهد حالة عنف واحدة أو اعتداء على الممتلكات أو تحرش من أحد بأحد.

ثانيا، حركتنا متهمة بأنها ممولة من الخارج، وتمدها الولايات المتحدة، وأنها قامت بتحريض من حماس، وبأنها تحت قيادة وبتنظيم رئيس الجمعية الوطنية للتغيير محمد البرادعي، وأخيرا وليس آخرا، بأنها موجهة من قبل الاخوان المسلمين. وتعدد الاتهامات بهذا الشكل في حد ذاته يثبت زيفها. المحتجون كلهم مصريون أهدافهم أهدافا وطنية واضحة ومحددة. المحتجون ليس لديهم لا سلاح ولا معدات أجنبية كما يدعي المحرضين. واستجابة الناس الواسعة لها تكشف أنها هي ذاتها أهداف جموع المصريين عموما، وليس أي فصيل أو كيان داخلي وخارجي.

ثالثا، يلقي النظام وإعلامه المأجور زورا وبهتانا بالمسئولية عن التوتر وعدم الاستقرار الذي شهدته شوارع مصر في الأيام الماضية، وبالتالي عما يسببه ذلك من أضرار لمصالحنا ومصالح أمتنا ولأمننا جميعا، على الشباب المتظاهر. فليس المتظاهرون سلميا هم الذين أخرجوا المجرمين من السجون ليخلقوا حالة السلب والنهب في شوارع المحروسة. ليس المتظاهرون هم الذين فرضوا حظر تجول يبدأ من الثالثة وأوقفوا العمل في البنوك والمخابز ومحطات الوقود. وحين نظم المتظاهرون مظاهرتهم المليونية خرجت في أحلى حلة وأفضل تنظيم، وانتهت سلميا. المتظاهرون ليسوا هم من قتلوا 300 شخص بعضهم بالرصاص الحي، وجرحوا أكثر من ألفي شخص في الأيام الماضية.

رابعا، خرج الرئيس مبارك علينا مساء الثلاثاء ليعلن عدم ترشحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة وتعديله لمادتين في الدستور، وخوض حوار مع المعارضة. وقد هاجمنا الاعلام الرسمي عندما رفضنا "تنازلاته" وقررنا المضي في حركتنا. إن مطلب التنحي الفوري لمبارك ليس مسألة شخصية. لكننا نستند في ذلك على أسباب واضحة من بينها:

الوعد بعدم الترشح ليس جديدا. فقد وعد مبارك عندما جاء رئيسا في 1981 بعدم الترشح لأكثر من فترتين، ليستمر بعدها لأكثر من 30 عاما. كما أن الخطاب لم يضع أي ضمانات لعدم ترشح ابنه جمال، الذي يظل حتى هذه اللحظة عضوا في الحزب الحاكم، ويستطيع ترشيح نفسه في انتخابات لن تتم تحت اشراف قضائي، إذ تجاهل الخطاب الاشارة الى تعديل المادة 88 في الدستور. كما اعتبر الخطاب حركتنا مؤامرة من قوى تعمل ضد مصالح الوطن، وكأن الاستجابة لمطالب الجماهير عار وعيب. وأما فيما يتعلق بالحوار مع المعارضة فكم من حوارات ادعى النظام انه سيقوم بها خلال السنوات الماضية وانتهت بمضي دولة مبارك في طريق المصالح الضيقة لمن يسيطرون عليها.

وجاءت أحداث الأربعاء لتثبت صحة موقفنا. فبينما كان خطاب الرئيس يعد، كانت قيادات نظامه ترتب مع البلطجية والمسجلين خطر من المأجورين مؤامرة الاعتداء الوحشي في التحرير بالسنج والمطاوي وقنابل المولوتوف، يصاحبهم أعضاء الحزب الوطني بإطلاق الأعيرة النارية بالبنادق الآلية على المتظاهرين العزل المحاصرين في الميدان، الذي أدى إلى مقتل سبعة على الأقل وإصابة المئات، منهم بإصابات بالغة، وذلك لإنهاء حركتنا الشعبية الوطنية والتمهيد لبقاء الحال على ماهو عليه.

حركتنا مصرية – حركتنا مشروعة - حركتنا مستمرة

شباب معتصم بالتحرير

في التبطر على نعمة الاستقرار

وائل جمال


لطالما كان "الاستقرار" هو الركيزة الأساسية التي استند عليها النظام المصري في تبرير وجوده واستمراره في الحكم، داخليا وخارجيا. وبعد سبعة أيام من الثورة المصرية، هاهو الاستقرار، الذي لم يعد مقبولا من المصريين، يعود إلى واجهة سياسة النظام المحاصر ودعايته.


التمهيد كان بالانسحاب الأمني من الشوارع ومن أمام البنوك وفتح السجون للجنائيين لكي يجتاحوا الشوارع بكل ما يعنيه ذلك من إثارة للذعر، خاصة في دوائر الطبقة الوسطى، التي يرغب النظام في استعادتها إلى صفوف سياساته بعد أن فاجأوه بانضمامهم الكاسح لصفوف المطالبين برحيله.


هذا السيناريو شمل أيضا التضخيم الإعلامي الهائل لأي حادثة ولو صغيرة، لجذب الانتباه بعيدا عن المطلب الجامع للثورة المصرية :الشعب يريد اسقاط النظام، بكل ما يعنيه هذا المطلب من حيثيات سياسية ترتبط الحريات والديمقراطية وحساب الفاسدين، واجتماعية تتعلق بإعادة بوصلة السياسات حقا في اتجاه الفقراء.


ويمتد سيناريو تمجيد الاستقرار للسماح بتداعي الخدمات، حكومية وخاصة، بالذات فيما يتعلق بنقل السلع الغذائية وإنتاج الخبز وتقييد ساعات عمل والكميات المقدمة من محطات الوقود.


والحقيقة أن هذه السيناريوهات كلاسيكية في كل التجارب التي شهدت أنظمة ديكتاتورية في لحظات الاهتزاز التي تسبق التهاوي. وقد رأى المصريون بأنفسهم على شاشات التليفزيون قبل أيام قليلة من ثورتهم نفس السيناريو بحذافيره في الثورة التونسية. بل إنه في العام 1973 في تشيلي كانت إجراءات كهذه هي السبيل نفسه من الجنرالات المتحالفين من رجال الأعمال ووكالة الاستخبارات الأمريكية للتمهيد لاسقاط حكومة سلفادور ألليندي الشعبية المنتخبة ديمقراطيا: قطع الطرق، تقديم الأموال لسائقي الشاحنات لعدم نقل المواد الغذائية من الريف للمدينة وإغلاق المحال للضغط على المواطنين ودفعهم لليأس من استمرار حتى حكومتهم المنتخبة.


وفي اللحظة التي يبدأ فيها أنصار التغيير وأسرهم في نقل تفكيرهم إلى كيفية حماية أنفسهم من الموت أو النهب أو في القلق على تدبير طعامهم وشرابهم أو حتى الحصول على مال كاف من حساباتهم البنكية لكي يستطيعوا الانفاق على احتياجاتهم اليومية، يظهر هؤلاء الشياطين من دعاة تمجيد الاستقرار القديم: "أراد الله من أن ندرك الحقيقة وأن نكتشف أنفسنا، وربما تبطر البعض منا على النعمة، وإغفال قيمة الاستقرار"، كما يقول لنا أحدهم بوضوح لا يضاهيه وضوح.

يعرف هؤلاء جيدا أن ما كان يقدمه استقرار الفقر وتدهور التعليم والصحة والقمع وتوريث الحكم ونهب الثروات لصالح رجال أعمال فاسدين على حساب حياة الناس ومستقبلهم هو بذاته ما دفع الناس إلى الشوارع، بمن فيهم رجال أعمال ورؤساء شركات وقضاة وغيرهم، ممن هم في تصنيفات العلوم السياسية الدعامة الأولى للأوضاع القائمة.

لكن هؤلاء يدركون أيضا أن للناس في كره ما كان درجات، وأن بعضا منا، ربما كانوا هم الأغلبية قد عاشوا استقرارا لا يختلف عن الفوضى التي يصرخون بمثالبها الآن.


لقد رأيت بعيني في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات حياة الآلاف من الأسر في مراكز الفيوم، الذين تستباح بيوتهم بمجرد الاشتباه في أن أحد أفراد الأسرة ينتمي للحركة الإسلامية. ومشاهد جر هؤلاء عراة من بيوتهم، بعد دخولها وتدميرها، في شوارع المدينة أو القرية لتجريسهم. ورأيت بعيني جثث إسلاميين محمولة على عربات نقل مكشوفة تمر في شوارع مدينة أبشواي لإرساء الذعر في قلوب السكان عقب التصفية الجسدية لتنظيم الشوقيين.


وبعد سقوط الحركة الإسلامية، التي كان أغلب المنتمين إليها من فقراء الصعيد والريف، ممن لا تهتم الصحف بأخبار اعتقالهم أو تعذيبهم كما تهتم بأخبار غيرهم ممن هم في شرائح اجتماعية أعلى، امتد التقليد ليصبح الإجراء الأساسي المتبع حتى في القضايا الجنائية. أي فوضى أكثر من أن تفقد قدرتك على حماية نفسك وأسرتك من عسف مخبر بأمن الدولة فقط لأنك فقير وليس لديك من يحميك منهم.


ألم يكن قتل خالد سعيد من وجهة نظر أسرته وأصدقائه "فوضى" في حياتهم وسقوطا في احساسهم بالأمان في حياتهم؟ وماذا عن كل من هم مثله ممن قتلوا تعذيبا في السجون وأقسام الشرطة أو شوهت به إنسانيتهم للأبد؟


أما فيما يتعلق بالمواد الغذائية. فلم يكن الاستقرار الذي يريدون إجبارنا على العودة إليه منزها هو الاخر من مثالب شبيهة بالفوضى التي يخلقونها لنا حاليا. تستطيع أن تعد معي كم أزمة خبز مررنا بها لدرجة أن الناس قتلوا بعضهم البعض من أجل الحصول عليه. كم أزمة بوتاجاز مرت بها البلاد سنة وراء سنة مخلفة وراءها قتلى وجرحى. يتحدثون عن الفوضى؟ أي فوضى أكثر من الملايين الذين يعيشون في العشوائيات دون خدمات تليق بالبشر في وقت يضغط فيه الاستهلاك الترفي للقلة على موارد البلد لأقصى درجة.


سنوات وسنوات مضت وخريجو الجامعات ينهون دراساتهم لكي يواجهوا فوضى المجهول، خاصة إذا لم يكن لديهم قريب أو صديق يستطيع دفعهم في وظيفة تمكنهم على الأقل من الانفاق على أنفسهم ناهيك عن الزواج أو السكن أو غيره.


أي فوضى أكثر مما يشهده التعليم والاحصائيات الحكومية تقول إن الأغلبية تتقدم فيه بالغش. وأي فوضى أعمق من تدنى قيم الكفاءة والإنتاج لصالح المحسوبية والولاء لأولي الأمر؟


منبع الفوضى الحقيقية هو النظام القائم على هذا الاستقرار واستقرار هذا النظام الذي لا يرغب فيه أحد الآن ولا حتى حلفائه في الخارج. وأما الجماهير المتظاهرة والمعتصمة في ميدان الشهداء، بتضامنها وإنسانيتها وحرصها الفطري على رفعة بلادها، فهي التي تفتح لنا طاقة النور لمجتمع آخر ليس فيه مكان لدعاة تمجيد "الاستقرار"، ومن يحركونهم.


نشرت الثلاثاء 1 فبراير في جريدة الشروق