الجمعة، 26 سبتمبر 2008

حول الدولار والأسعار والأرباح

وائل جمال*

منذ أن وصل نظام مبارك للحكم، أي ما يزيد على ربع قرن، كانت القاعدة الذهبية هي أن العملة الوطنية (وكانت تساوي حينها 1.4 دولار)، تخسر كل يوم أرضا جديدة أمام العملات الأجنبية، وهو ما يمكن أن يعد علامة أكيدة على الانحطاط المتواصل في مكانة والوضع التنافسي للرأسمالية المصرية في سباقها مع منافسيها في الأسواق الناشئة والعالم. لكن سوق الصرف بدأت تشهد لأول مرة في الشهورالقليلة الأخيرة ظاهرة لم تحدث من قبل في عصر مبارك.

فما بين يوليو وأكتوبر 2007، انخفض الدولار الأمريكي في مواجهة الجنيه المصري بأكثر من أربعة في المائة كاملة لينزل تحت مستوى الخمسة جنيهات ونصف لأول مرة منذ تحريره على يد حكومة عاطف عبيد. وقتها قررت حكومة عاطف عبيد بشكل مفاجيء تحرير سعر الجنيه في مواجهة الدولار ليقفز سعر الأخير إلى ما فوق السبعة جنيهات في السوق السوداء مولدا موجة عارمة من ارتفاع الأسعار. وها هو الدولار ينخفض لكن الأسعار لم تبدأ في التراجع، بل إنها لم تتوقف عن الارتفاع. 

انخفاض عالمي أم جنيه أقوى؟

تراجع الدولار الأمريكي أمام العملات العالمية على مدى الشهور الماضية ليصل لأدنى مستوى له خلال عشرين شهرا خلال نوفمبر الماضي. وعلى ذلك فإن جزءا، على الأقل، من الصعود الذي نشهده للجنيه في الفترة الأخيرة ينبع من وضع الدولار العالمي، خاصة وأن الجنيه لم يتمتع بهذا الوضع في مواجهة العملات الأخرى كاليورو والاسترليني. لكن هذا لا يمنع في الحقيقة من أن هناك محركات أخرى تتعلق بالاقتصاد المصري وتطوراته في الفترة الأخيرة تلعب دورا في ارتفاع قيمة العملة المحلية.

على مدى السنوات الثلاث الماضية غيرت الرأسمالية المصرية توجهها لتقترب، للمدى الأقرب تاريخيا، من روشتة الليبرالية الجديدة، مطيحة بذلك بالعديد من الاعتبارات السياسية والاجتماعية التي كانت تقيد طموحاتها بالنسبة لبرنامج التكيف الهيكلي.

هذا الثمن الذي دفعناه جميعا خلال الثلاث سنوات الماضية منذ أن وصل نظيف للحكم، من ارتفاع في أسعار الخدمات والطاقة وتراجع للأجور الحقيقية وتدهور معدلات الفقر وغيرها، انعكس على البيانات المالية للشركات الكبرى التي تقود عملية التراكم في مصر ومن ثم على وضعية الرأسمالية المصرية عموما.

قفز معدل النمو إلى ما فوق السبعة في المائة سنويا لأول مرة منذ سنوات طويلة، وتحرك برنامج الخصخصة ليجلب معه تدفقات من الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتتجاوز أحد عشر مليار دولار فيما كانت تصل لنصف مليار سنويا. انتعشت البورصة المصرية مترافقة مع تعمق في صلتها بالبورصات العالمية بعد أن أصبح الأجانب لاعبين أساسيين بها. وزادت الصادرات إلى ما فوق ثلاثين مليار جنيها، مقارنة بحوالي الخمسة قبل سنوات قليلة، وبنسب زيادة كبيرة في المكون غير البترولي منها.

كل هذا انعكس في فائض يتزايد لميزان المدفوعات المصري وصل في أكتوبر الماضي إلى 1.2 مليار دولار أمريكي بمساندة من فائض حساب المعاملات الرأسمالية. وترافق ذلك مع عدد من الإجراءات النقدية، عبر أسعار الفائدة وعبر آليات لضمان السيولة من الدولار، والتي أدت إلى هدوء في سوق صرف العملات الأجنبية.

إذن والحال أن معدلات الربحية زادت بعد تراجع الضرائب والجمارك وزيادة معدلات استغلال العمال، كان طبيعيا أن يتحسن موقف الجنيه أمام الدولار بل إن الحقيقة أنه كان من الممكن أن يتحسن أكثر من ذلك لولا أن البنك المركزي المصري، بتنسيق لا شك فيه مع الحكومة، وقف في وجه ذلك.

تشوهات وتحيزات

بعد قرار تعويم الجنيه  ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية لأكثر من 15%، أما السلع التي يدخل فيها مكون أجنبي فقد ارتفعت بنسبة تتراوح ما بين 18 و30% بنفس نسبة ارتفاع الدولار أو انخفاض الجنيه. وهذا هو الحد الأدنى للارتفاع في ظل أن معدلات التضخم التي تقدمها الحكومة المصرية تميل بأساليب فنية وبإيعاز سياسي لتقليص الصورة الحقيقية.

السبب في ذلك هو أن الواردات تشكل مصدرا رئيسيا للسلع الاستهلاكية ومدخلات الانتاج والصناعة على حد سواء. فقد كانت هناك تقديرات وقتها بأن المكون الأجنبي في الصناعات المصرية يقدر بنحو 40% من تكلفة المنتج النهائي للسلع. أما السلع الأولية كالقمح والفول وغيرها فحدث ولا حرج حيث وصلت نسب الاستيراد فيها إلى معدلات قياسية.

من هنا كان من الطبيعي أن تحسن قيمة الجنيه تعني تراجع في الأسعار ولو بنسبة طفيفة، ولو بتوقفها عن الارتفاع. صحيح أن أسعار بعض السلع الغذائية التي تستورد مصر منها كميات هائلة، كالقمح، قد قفزت في الأسواق العالمية لتتسبب في تغذية التضخم، وصحيح أن سعر اليورو مثلا ، عملة أحد الشركاء التجاريين الهامين بالنسبة لمصر، لم يشهد تراجعا أمام الجنيه، إلا أن هناك عوامل أخرى لا تقل أهمية ووضوحا أدت إلى تعطيل هذا الميكانيزم الصافي للسوق.

أول هذه العوامل هو أن الدولار هو العملة الأساسية أو العملة الجسر بين الاقتصاد المصري والاقتصاد العالمي. فبرغم أن البنك المركزي قد تحول لاعتماد سلة من العملات في تحديده لسعر الصرف في وقت مبكر من العام الحالي، إلا أن الدولار مازال يحتل الوزن الأعلى بما لا يقاس في هذه السلة (سبعون في المائة). وهذا بالطبع قرار سياسي أيضا يرتبط بتحالفات الرأسمالية الحاكمة مع الولايات المتحدة.

ثاني هذه العوامل هو أن البنك المركزي المصري لا يرغب في أن تزيد قيمة الجنيه. فزيادة قيمة الجنيه تعني ضعفا في القدرة التنافسية لمنتجات التصدير المصرية مما سيتسبب في انهيار معدلات ربحية القطاعات التي تعتمد على التصدير (لهؤلاء هنا ثقل سياسي هائل في اتخاذ القرار في توازنات حكومة نظيف، ربما أعلى من وزنهم في تكوين الرأسماليين المصريين عموما). الشيء الثاني أن هذا سوف يؤدي إلى زيادة تكلفة الاستثمار في مصر. فكلما كان الجنيه المصري أضعف كانت كلفة إنشاء مصنع، بالنسبة لمستثمر أجنبي أقل، وكلما أصبحت الأجور التي يدفعها أقل، مقارنة بعملته.

انطلاقا من هذه الاعتبارات، المتحيزة لمصالح رجال الأعمال والشركات الكبيرة، دأب البنك المركزي للتدخل، تخيلوا، من أجل منع الدولار من الانخفاض أمام الجنيه، وذلك عبر شراء الدولار. آخر هذه العمليات كانت في أواخر أكتوبر الماضي حينما فاجأ يوسف بطرس غالي الجميع بتصريحات يؤكد فيها على أن الدولار سيتراجع إلى خمسة جنيهات وثلاثين قرشا فقط بنهاية العام الحالي. هذه التصريحات أدت إلى موجة بيع للدولار نزلت بسعره إلى خمسة جنيهات وثمانية وأربعين قرشا. لكن البنك المركزي اشترى ما يصل إلى مليار دولار في ساعة واحدة ليمنع الجنيه من التحسن، وهو ما ظهر في احتياطاته النقدية التي تضخمت لمستوى تاريخي يقترب من الواحد وثلاثين مليار دولار بنهاية أكتوبر الماضي.

لكن العامل الأهم في عدم تراجع الأسعار مع تراجع الدولار لا يتعلق بالتفضيلات النقدية للسياسة الاقتصادية المصرية وإنما بتشوهات هيكلية في بنيته على رأسها الاحتكارات الانتاجية والتجارية.

ميكانيزم السوق الكفء، وهو في الحقيقة لا يتحقق بصورته المثالية لا في مصر ولا في غيرها، إلا في كتب ببغاوات السوق الحر وخطابهم، لا يمكن أن يفرض نفسه لو أن منتجا واحدا يتحكم في سبعين في المائة من عرض سلعة تدخل في كافة عمليات البنية الأساسية وكل مشروعات التشييد كالحديد. ميكانيزم السوق الكفء يصبح قاصرا أمام احتكار استيراد القمح في أيدي قلة من المستوردين. المحتكرون يحددون الأسعار ويغترفون فارق سعر الصرف في جيوبهم مضيفين لأرباحهم ولعملية التراكم على حساب ميزانية الفقراء.

من هنا لم يتراجع معدل التضخم حتى في حسبته الحكومية المنقحة، سوى مؤقتا (7.5 في المائة سنويا في أكتوبر الماضي)، غير أن جنون الأسعار مازال مستمرا بالذات مع التحرير الذي تتسارع وتيرته لأسعار المياه والكهرباء والمواصلات العامة وغيرها. ومازال الخبراء الاقتصاديون يحذرون من موجة تضخمية وارتفاعات جديدة منتظرة، حتى وهم يتوقعون المزيد من التراجع للدولار، قد تطيح في بعض التقديرات حتى بمعدلات النمو الاقتصادي.

لكن الأهم، والتقدير هنا للبنك الدولي، هو أن شريحة كبيرة من المصريين يقبعون على حافة خط الفقر، وأن الارتفاعات المنتظرة والتي ستواكب خطط رفع أسعار البنزين والتحول إلى الدعم النقدي (الاسم الحركي لتقليص الدعم) ستطيح بهؤلاء إلى بئر الفقر المدقع.

تشوهات الاقتصاد المصري واعتبارات تراكم الأرباح لا تفسح لعموم المصريين مساحة للعيش حتى وإن كان صعبا، وهي بذلك لا تترك لهم بديلا سوى الاحتجاج على طريقة موظفي الضرائب العقارية، احتجاجات سنرى الكثير منها في المستقبل القريب.

*نشرت في جريدة الاشتراكي في ديسمبر ٢٠٠٧

ليست هناك تعليقات: