بقلم المستشار طارق البشري
نشر بصحيفة العربى بتاريخ 10 أكتوبر 2004
من الملاحظ أنه كلما ضاقت دائرة الأفراد الممسكين بزمام الدولة زاد التضييق على خصومهم السياسيين، وزاد ميلهم لاستخدام العنف مع الخصوم. وأن شخصنة الدولة هى آخر درجات ضيق نطاق المسيطرين على الدولة، ذلك أن الشخصنة تكون القيادة فيها قد آلت إلى أفراد معدودين، لم يعد الأمر فى يد شريحة طبقية أو طائفية أو قبلية أو غير ذلك، إنما صارت إلى أفراد، وهنا تضيق المصلحة المحمية من الدولة لأنها تكون اقتصرت على مصالح أفراد
كما يضيق التأييد الاجتماعى المستمد من الجماعات، سواء خارج الدولة أو من بين العاملين بالدولة ومن داخلها، كما تضيق الحجج والمحاذير التى تساق لتبرير السياسات والأوضاع، فيزيد عدم الاحتمال ويزيد الميل إلى اسباغ نوع من القداسة على الفرد الذى يعتبر رأس الدولة المشخصنة، ويزيد احتمال استخدام آلة الدولة الأمنية لقمع أى حركة مخالفة فى مهدها. واستخدام عنف الدولة هنا هو الحل الجاهز دائما والسريع لمواجهة أى تحرك أو أى تجمع ولو فى مهده، لإجهاض ما يتكون ولردع ما هو فى طريق التكوين.
وهذا ما يواجه به أى فعل حركى فورا، وهو ما ينتظره أى فعل حركى، وهو ما يتعين أن يكون فى الحساب دائما، أقول ذلك لأنه يتعين أن يكون فى الحساب أيضا لا توقع عنف الدولة فقط، ولكن الإعداد للقدرة على مواجهة هذا العنف بعدم العنف، أى بالتلقى والتقبل لعنف الدولة دون أى رد عنيف، ذلك أن العنف الذى يمارس هنا إنما تمارسه الدولة وأجهزتها قياما بواجبها ووظيفتها الأساسية وهى حفظ الأمن ومنع الاضطرابات، وهى أجهزة ليست سياسية ولا تصدر عن تقويم سياسى تقوم به أو يقوم به قادتها، وإنما تصدر عن إرادة سياسية وقرار سياسى تملكه أجهزة التقرير فى قمة الدولة المشخصنة، وليس ثمة خصومة تقوم مع أجهزة الدولة ولا مع العاملين فيها، والأمر يقتضى من أصحاب الحركة الشعبية قدرا كبيرا من ضبط النفس ومن الاحتمال ومن الاستعداد لتقبل العنف دون رد عليه إلا بالتصميم على الحركة وعلى استبقائها مستمرة وعلى استبقائها غير عنيفة، وأن يكون تحمل عنف الدولة دون رد عليه مع الاستمرار فى الحركة السلمية غير العنيفة، أن يكون ذلك هو التكلفة والنفقة التى تؤدى لله وللوطن من أجل الخروج من الطريق المسدود الذى يظهر أنه لا خروج منه إلا بالحركة.
إن من صفات الدولة وعمالها وأجهزتها، أنها تمارس أعمالها بوصفين متباينين، فهى تميل إلى العمل بوصفها حكما وراعيا للصالح العام أو لصالح من يكون له حاجة لأن ذلك من وظائفها الرئيسية، من إدارة المرافق والخدمات وكفالتها لمستحقيها، ولابد لأى إنسان أو أى جهاز أن يقدم بقدر ما من وظائفه الرئيسية التى وجد من أجلها لكى تبقى له القدرة على الاستمرار والمبرر المعنوى والمادى لوجوده وقيمته الاجتماعية.. ومن جهة أخرى فإن هذه الدولة ذاتها وعمالها وأجهزتها يمارسون العمل الحصافى الحاد لمن يقف فى طريقهم أو يبدى لهم الخصام. ونحن نلحظ أنه حتى فى الأعمال الرتيبة للنشاط العادى لأجهزة الدولة المختلفة، يختلف اسلوب تناول أى مطلب لأى مواطن، ويتوقف الاختلاف حول ما إذا كان صاحب الطلب استدعى حاكمية الجهاز المعنى أم استدعى خصومته. واحتمالات الاستجابة له فى الحالة الأولى تكون قائمة، أما فى الحالة الثانية حال استدعاء الخصومة فلا احتمال قط للنظر المنصف حتى لو كان الطالب غير مشكوك فى حقه. وبصرف النظر عن الصواب والخطأ فهكذا تعمل آلة الدولة عندنا.
لغاندى تعبير دقيق وجميل يصف به هذا الأمر، فهو يقول إن الحاكم عندما يواجه الحركة الشعبية السلمية بالعنف يكون كمن يضرب الماء بسيفه ليقطعه، فالعنف لا يهزم الحركة السلمية مهما آذى رجالها، وللأديب الأمريكى يوجين اونيل مسرحية باسم الامبراطورجونز، أذكر من وقائعها عندما قرأتها من نحو ثلاثين سنة، أن امبراطورا فى بلد إفريقى انسحب مواطنوه من البلدة وذهبوا إلى الغابة وبقوا يدقون الطبول على نحو رتيب، أى انصرف عنه شعبه، ولكنه كان انصرافا منظما وجماعيا ويستهدف عملا احتجاجيا مقاوما، لم يكن الانصراف عملا سلبيا، كان هو صميم العمل الايجابى، ولم يكن هروبا بل كان هو عين المواجهة. وتصف المسرحية اضطراب الحاكم وقتها.
لابد للحاكم من الشرعية، مهما كان ذا سلطات مطلقة، والشرعية بالمعنى المقصود منها هنا هى التقبل العام الذى يمكن له من أن يطاع وأن تنفذ أوامره، ونواهيه بين الناس فيصالح غالبيتهم إليها، وأن تنفذ هذه الأوامر والنواهى بين عمال الدولة وأجهزتها فيتحركون لإفضائها بين الناس. ويستحيل للحاكم أن يحكم شعبا إلا بتوافر درجة معتبرة من التقبل والانصياع له بين الناس، ويستحيل عليه أن تمضى قراراته بين عمال دولته إلا بدرجة أقوى من التقبل تدفع عماله إلى الحركة لإمضاء قراراته بغير تراخ ولا تسويف ولا اهمال إن من أولى مشاكل أى رئيس فى أى موقع من مواقع العمل والإدارة، هى كيف يدفع مرءوسيه إلى مده بالمعلومات والخبرات الخاصة بالعمل بكفاءة وصدقية، وكيف يدفعهم لأن ينفذوا قراراته بالضبط اللازم لإنتاج أثرها، ولو فرض إن كان المرءوس شخصا وحدا وهذا طبعا لا يحدث قط لكان الرئيس أحوج إلى مرؤوسيه الوحيد من احتياج المرؤوس إلى رئيسه.. يبدو ذلك جليا إذا لوحظت غلافة أى رئيس جديد بمرءوسيه يكاد فى الأيام الأولى له معهم علاقة يستجدى تقبلهم له، إن لم يكن ذا علاقة سابقة بهم. هذا من حيث علاقة الرئيس بمن دونه.
ويلحظ أن علاقة الحاكم بمحكومه أشد احتياجا، لأنه لن يكون حاكما بغير طاعة المحكوم، وإذا أردنا أن نوضح مدى احتياج كل من الجانبين للآخر، فيمكن القول بأنه لا أمن ولا انتظام للمحكوم بغير الحاكم، ولكن فى المقابل فإنه لا وجود أصلا للحاكم بغير المحكوم. ولا أقصد بذلك الوجود المادى ولكن أقصد وجود الحاكم بوصفه طرفا فى علاقة لا تقوم ولا تنشأ إلا بمحكوم لديه الحد الأدنى للتقبل والانصياع، بحيث إنه إذا أزاح التقبل والانصياع، أو خفضهما إلى ما دون الحد الأدنى، فلا يبقى حاكم على كرسيه، والمسألة هنا ليست مسألة إزاحة مادية، إنما هى إزاحة للتقبل وهى ليست إطاحة مادية ولكنها إطاحة للانصياع وللخضوع.
حن نعرف من تجربة الهند أن الانجليز ما كانوا يستطيعون أن يحكموها بغير تعاون الهنود وخضوعهم، وهذا ما أدركه غاندى وعمل على إنهاء هذا التعاون فما لبث الحكم الإنجليزى أن انتهى، رغم أنه كان يعتمد على جيوش واساطيل انجليزية وكان جهاز الدولة الهندى يتشكل فى قياداته من الإنجليز. أقصد أن أقول إن هذا الاسلوب كان ناجحا ضد حكام أجانب وضد آلة حرب أجنبية وضد جهاز دولة يشكله ويشرف عليه ويشترك فى أنشطته الوسطى أجانب، فما بالك بأثره الكبير إذا لم يوجد أجنبى فى حكم أو فى آلة حرب أو فى أجهزة دولة. ولغاندى كلمة ذكية فى هذا الشأن، فهو يقول سوف نتوقف عن لعب دور المحكوم، وأن الإنجليز مهما اعملوا العنف فنحن نعرف أنكم لن تستطيعوا أن تتحركوا خطوة واحدة للأمام وإذا كان هذا ما قاله غاندى بوصفه محكوما، فهو عينه تقريبا ما قاله هتلر بوصفه حاكما وطاغية، فهو يقول فى كتاب كفاحى إنه لا يمكن الاحتفاظ بأجهزة الحكومة عن طريق القوة وحدها. وميكيافيللى يؤكد الظاهرة ذاتها فى كتابه الأمير على اعتبار أن القسوة كلما زادت ازداد نظام الحكم ضعفا وأنه إذا لم يكن من سبيل أمام الحاكم لانتزاع الطاعة إلا بالعنف فإن النظام يكون آخذا فى الزوال، وعلينا أن نعى جيدا درسا فى السياسة يتفق على إدراك ظواهره وعلى استخلاص عبرته، يتفق على ذلك غاندى فى أقصى الحركة الشعبية السلمية الأخلاقية وهتلر فى قمة سلطة العدوان المسلح العنيف غير الأخلاقى وميكيافيللى فى قلب العمل السياسى الذى لا يعرف من المبادئ إلا مصلحة الحاكم والدولة.
ونحن نذكر مثلا، فى ثورة 1919 فى مصر أن كان طابعها العصيان وعدم التعاون، وكانا بما هو جدير بها أن يكونا فاعلين، من حيث السعة الشعبية والشمول، وهذا ما جعل اللورد اللنبى المندوب السامى البريطانى فى مصر يصف لحكومته الوضع قائلا: لقد صارت الحكومة مستحيلة فى مصر فى ربيع 1919، وهذا بالذات وضع استحالة الحكومة هو ما اضطر الحكومة البريطانية الاستعمارية إلى تقديم التنازلات للمصريين بالاعتراف باستقلال مصر وسقوط الحماية البريطانية عنها، والبدء فى التعامل مع قوى الثورة المصرية، وتعرف فى السودان حركة 1964 التى خرج فيها شعب السودان إلى الشوارع فى حركة احتجاج شعبى منظم ومصمم حتى انتهى سلميا نظام إبراهيم عبود الذى كان بدأ فى 1958 واستمر حتى 1964، وتعرف أيضا بدايات الثورة الإيرانية، تحرك الناس بجمعهم كل حركة سلمية احتجاجية تعبر عن الرفض الشامل لحكم الشاه، وبقى تحركهم شاملا وسلميا رغم ما لاقوه من عنف الدولة وأجهزة القمع فيها، ولكن الإصرار على الفعل الاجتماعى السلمى المثابر فى شمول ما لبث مع مضى الوقت أن نصل بين قيادة الدولة صاحبة القرار وبين أجهزة التنفيذ والضغط فانحل وثاق الدولة وكان امتناع أجهزة القمع عن إطاعة الأوامر بالضرب هو فى ذاته إنهاء للنظام السياسى. كما كان إضراب المواطنين فى مصر فى 1919 إيذانا بانتهاء نظام للحكم استمر سبعا وثلاثين سنة سابقة منذ 1882 وإيذانا ببداية نظام جديد استمر ثلاثا وثلاثين سنة حتى 1952. إن الفعل السلمى المنتج يستوجب حركة جامعة وشاملة كأوسع ما تكون، أو بعبارة أدق فإنه بقدر سعتها وشمولها بقدر ما تكون منتجة، وبقدر ما تكون أسرع فى الإنتاج وبقدر ما تكون أعمق فى أثرها الطيب المرجو. كما أن هذا الفعل المنتج يستوجب صبرا على الشدائد التى سيواجه بها حتما، لأن الحكم المشخصن لابد أن يستخدم العنف فى البداية، وهو لا يوجه أزماته إلا بالمزيد من التسلط وقلة الحيلة والقمع كما أن هذا الفعل المنتج يقتضى طول النفس، وأن الصبر وطول النفس واستبقاء السلمية فى التعبير رغم تحمل الصعاب أن ذلك يزيد من فاعلية ومن اتساع جامعته ونمو شموله.
وأصعب ما فى هذه المستوجبات هو أولها، لأن نظام الدولة القابضة الذى انبنى فى بلادنا، وما اتصفت به وظائفها من شمولية وتسلط، وما خضعت له من مركزية شديدة، وما عانت منه فى العقود الأخيرة من فردية وتشخصن، كل ذلك أدى إلى انفراط فى التجمعات الشعبية انفراط لا يظهر لى أنه بلغ هذا المدى البعيد فى أى مرحلة من مراحل تاريخنا الحديث المرئى، إن تجمعات الماضى كالمذاهب والطرق الصوفية ونقابات الحرفيين وتجمعات الطوائف والملل والقبائل، قد انتهت أو أن ما بقى منها صار شكلا بغير محتوى قادر على فعل التجميع المنتج.
وأن تجمعات الحاضر ذات التشكيلات الحديثة، مثل نقابات العمال والنقابات المهنية واتحادات الطلبة وغير ذلك، كلها آلت إلى أن تكون تكوينات شبه مفرغة من القدرة على التحريك الشعبى، بعضها تحت الهيمنة الرسمية للحكومة، مثل الجمعيات والجمعيات التعاونية التى تخضع للإشراف وللوصاية من جانب الحكومة على أعمالها، ومثل النقابات العمالية التى صارت تحت الهيمنة الفعلية لأجهزة الدولة العمالية والأمنية، ومن خلال وزارات العمل ووزارات الداخلية، ومثل اتحادات الطلبة التى آلت إلى هذه السيطرة ويبقى النقابات المهنية والأحزاب والنقابات المهنية أحاطت بها الحكومة وإن لم تستطع أن تخضعها بعد لسيطرتها الكاملة، ولكنها أمكنها الإحاطة بإرادتها الانتخابية وبحركيتها بين جماهيرها، وكذلك الأحزاب ولا أريد أن استطرد فى تفاصيل هذا الأمر حتى لا أقطع سياق الحديث المقصود.
والمهم أن المواطنين صاروا مبعثرين أفرادا لا يجتمع الغالب منهم فى تجمعات منتظمة ولا يحيون معا بين ذويهم من أهل المهن أو الحرف أو الأقاليم أو المذاهب أو الملل أو العشائر، وأقصد بالتجمع المنتظم والحياة هذا التواجد الإنسانى الجماعى الذى يقوم به الشعور بالتجمع والاتصال بجماعة ما. وأشير إلى أن الدولة المركزية فى بلادنا بما ضربت به التجمعات الأهلية والجماعات الفرعية إنما قصدت إلى أمرين أولهما القضاء على الشعور بالجماعية أيا كانت سياسية أو اجتماعية أو مذهبية أو اقليمية أو مهنية، وثانيهما القضاء على التعبير السياسى أو الاجتماعى خارج الغرف المغلقة، بالحركة الشعبية السلمية فى أماكن العمل وفى الشوارع والميادين وغير ذلك، وأن الفعل الحركى السلمى المطلوب لابد أن يتجاوز ما تحرص الدولة المركزية على منعه فى هذين الأمرين، وما اعتاد الناس عليه بموجب منع الدولة أزمانا طويلة. وذلك بإحياء عوائد العيش فى ظل الانتماءات الجماعية وبإحياء عوائد التعبير الجماعى السلمى عن الموقف وسائل التعبير الجهير خارج الغرف والقاعات المغلقة.
المواطنون فى شتات داخل أوطانهم وفى عقر بلادهم، ولابد من الخروج من هذا الشتات، ولا مخرج من حالة الشتات إلا بتجاوز أوامر قيادة الدولة المشخصنة، دولة الفرد الواحد. وهذا التجاوز لا يتأتى بالمطالبات وبالتوجه لهذه القيادة المشخصنة بما يطالب به الناس من تجمع، إنما يرد بالممارسة، وفى مثل هذا الأمر على الجماعات الوطنية أن تدرك أن الشرعية فى التصرف والفعل الحركى لا ترد من قيادة فردية ولا من قراراتها، وإنما ترد من نظم المجتمع وما يكفله الدستور من رخص وحريات وتحرى ممارسة الأفعال وحقوق الإنسان بموجب الإقرار الجماعى بقيام هذه الرخص وإتاحة هذه الحريات، وتجرى النظر إلى سياسات القيادات الفردية وقراراتها التى تمنع هذه الأمور، يجرى النظر إليها بحسبانها من العقبات المادية الواجب تفاديها، والمهم فى ذلك هو الممارسة والنظر إلى العقبات بروح التذليل لما يقبل التذليل والتفادى لما لا يجدى معه إلا التفادى وكل ذلك فى إطار صارم من السلمية فى النشاط والعمل. ومع تحمل نتائج العقبات المادية والصبر على نتائجها. ويحدث ذلك بالقليل المتتابع الذى يصير كثيرا مستمرا بإذن الله تعالى.
إن المشكلة أن الإنسان وهو فرد يستصحبه الشعور بالضعف وعدم الأهمية ويستبعد أن يكون رأيه أو فعله ذا أثر فى غيره. ويكون متمثلا قول الشاعر صلاح عبدالصبور أريد.. أريد.. ولكننى.. أخاف الطريق لأنى وحيد وأنا اشتغلت طول عمرى فى القضاء الإدارى، فى هذا الجانب من المشاكل القانونية التى تثور بين الأفراد وبين الدولة، وأدرك يقينا حال الفرد الأعزل الوحيد وهو يواجه سلطة مؤسسة تتكون من جماعة منظمة ذات تشكيل هرمى يخضع لإمرة رجل واحد.. وأعرف هذا الفرد الوحيد فى يتمه وقهره. والقانون ذاته يحاول أن يقف بجانبه فى استيفاء الأوراق وعرض المسائل، لأنه فى صدد تحقيق العدالة لا يمكن التغافل عن عدم التوازن المطلق فى موازين القوى بين ضعف هذا الفرد وبين قوة هذه السلطة، وأحسب أنه يمكن القول بأنه مع انحياز القانون لصف هذا الطرف الضعيف يندر أن تتحقق درجة التوازن المطلوب دائما.
لذلك لابد من الخروج من هذه الحال. ولابد من التجمع، لن يشعر الفرد بقوته وبأثره إلا وهو فى جماعة فاعلة. وأن قوة الجماعة هى أضعاف أضعاف مجموع أفرادها فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين صدق الله العظيم الأنفال66.
إن الطغيان لا يبقى قويا مدعوما إلا بقدر ما يكون الناس متفرقين وهو يعرف جيدا من أول درس استوعبه فى علم الطغيان أن مصدرا مهما لقوته عليهم هو الشتات الذى يحيون فيه لذلك لابد من تجاوز الشتات، شتات المواطنين فى وطنهم، ولا يبدأ هذا التجاوز إلا بالممارسة الفعلية فهى ما عليه المعول، ولا يظن صاحب عقل رشيد أن الحاكم سيعطى المواطن ما يقوى به المواطن على الحاكم.
إن القمع الذى يواجه به فعل التجمع الشعبى فى مجالاته المتعددة والمتنوعة، ومادام بقى الفعل الشعبى ممارسا بتتابع واستمرار، ومع تحمل التكاليف المترتبة على ذلك، ومع التصميم على الالتزام بالممارسات السلمية الخالصة، فإن القمع هنا ما يلبث أن يؤدى إلى عكس النتائج المتوقعة منه، لأنه خليق به أن يعزل عامة الشعب عن أفعال القمع، وأن يفكك من تماسك أجهزة القمع ذاتها فيزداد التماسك الشعبى والتجمع الشعبى من جهة، ويزداد التفكك ويضعف الترابط بين إرادة الحكم وبين أجهزة التنفيذ، وبه يزيد المعارضة ويزداد عدم التعاون فى العلاقة بين الحكم وبين الآخرين.
وأنا اتصور طبعا، أن الحال الحاضر ليس مرضيا عنه ولا مقبولا من كثيرين داخل أجهزة الدولة، لأن الحال وصل إلى حدود لا يقبلها ذوو النظر السليم للأمور من وطنيين ومهنيين وأصحاب فكر جاد وخلق مستقيم، من هؤلاء الآلاف الذين تضمهم أجهزة دولة واسعة الانتشار واسعة العمل ذات تاريخ وذات خبرات متراكمة فى أمور الإنتاج والخدمات والأمن وحكومة الناس.
والحال غير المرضى عنه هنا فيما احسب، يتوزع على مجالات عديدة، وأولها طبعا وأهمها موضوع الأمن القومى، وضعف مصر المتتابع الحلقات خلال العقدين أو العقود الثلاثة الأخيرة، ضعفها إزاء القوة المتنامية لإسرائيل عند حدودها الشمالية الشرقية وامتلاكها السلاح النووى وضربها المتتابع لرفح فى حدود مصر فضلا عما يبيت للسودان الذى يجيء مصر منه مصدرها المائى الوحيد الذى تقوم عليه حياة المصريين كلها. فضلا عن ضعف متتابع الحلقات لمكانة مصر العربية والدولية، حتى صارت تنزل منزلة دول الخليج فى الأهمية الإقليمية. والأحوال التالية لذلك تتعلق بما هو معروف ومشتهر من تدهور فى الطاقة الإنتاجية الصناعية لمصر حتى فى صناعاتها التقليدية التى اشتهرت بها من قديم مثل الغزل والنسيج، وكذلك زيادة اعتماد مصر الزراعية على الخارج فى استيراد أغذيتها الضرورية وأهمها القمح. وكذلك ما نعرفه من بقاء حالة الطوارئ ثلاثا وعشرين سنة مع قيام المعتقلات على النحو الحادث، ثم السلطة الفردية الشخصية وما يثور الآن من إمكان توريث منصب رئيس الجمهورية بالإعداد السريع لهذا الأمر.
وأظن أن موضوع التوريث لا يمكن أن يكون محل رضاء الجادين فى دولة كالدولة المصرية، إلا أن يكون سكوتهم ناتجا عن عدم الاستطاعة، ومن الواضح أن عدم الاستطاعة يعكس تقديرا ما لموازين القوى فى قمة دولة حكمت بطريق شخصى فردى متتابع العقود، وأن قمة أجهزة الحكم فى تركيباتها المتوازنة بما يلائم فردية السلطة القابضة على رأس الدولة، تفضى إلى نوع من التوازن السلبى الذى ينتج الوهن وعدم القدرة على الحركة، وقد ينتج أيضا عدم القدرة على التوقع والحساب وكل ذلك يشل الفاعلية.
ولا يرد ما يحرك هذا الجمود وهذا الماء الآسن، إلا بفعل شعبى يرد من خارج الإطار الرسمى المرسوم من غير توقع ولا حساب، فيرجح كفة على كفة أو يمسك هو بزمام الأمر حتى يقضى الله سبحانه أمرا كان مفعولا. ورحم الله من قال:
إن وقت البذر غير وقت النبات
يبذر البذر ويبقى النبات موقوفا على مجيء سحابة ماطرة
فتخرج الأرض ما كان فيها كامنا
وكذلك
تبقى الودائع مطوية فى صدور العباد حتى يحين أوانها
ثم قال رحمه الله:
لا حجاب إلا الوقت
والحمد لله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق