الأحد، 16 يناير 2011

الانتفاضات الشعبية العالمية في عشر سنوات.. دروس للانتفاضة المصرية المقبلة

وائل جمال


"إن حل مشاكل طبقة بواسطة طبقة أخرى هو واحد من تلك الوسائل المركبة الطبيعية في البلدان المتخلفة". هذه المقولة التي ترد في الفصل الأول من كتاب تروتسكي الكلاسيكي الثورة الروسية كانت القانون الأساسي للانتفاضات الجماهيرية التي شهدها العالم في العشر سنوات الأخيرة. من إندونيسيا للأرجنتين والإكوادور وبيرو وغيرها، انتفضت الجماهير وأسقطت نظما وحكومات فيما شكل هزيمة واضحة لكل الادعاءات بغياب قوة الحركة الجماهيرية بغير رجعة. لكن أيا من هذه الانتفاضات لم يقدها الاشتراكيون، ولم يفلح أي منها أيضا في تحدي العلاقات الاجتماعية الرأسمالية.

عوامل تشابه في المقدمات والنتائج

الأسباب العميقة وراء هذه الانتفاضات كانت متشابهة وواضحة. فقد كانت كلها في دول ما يسمى بالعالم الثالث، وكانت في جميع الحالات رد فعل على السياسات الاقتصادية النيو ليبرالية التي أفقرت قطاعات جماهيرية واسعة، وعلى الأزمات الحادة التي عرضت لها هذه السياسات اقتصاديات هذه الدول مجبرة الملايين على دفع ثمن باهظ لم يكن من الممكن احتماله طويلا. في إندونيسيا، كانت الأزمة الآسيوية في الخلفية. في أمريكا اللاتينية كان التطبيق الكامل لتعليمات الصندوق وما أفرزه من أزمات في الأرجنتين والإكوادور وبوليفيا وغيرها هو الشرارة التي فجرت انتفاضات متتابعة في القارة بدأت بالإكوادور في يناير 2000.

في هذا السياق مصر ليست مختلفة كثيرا. فعلى مدى السنوات الأخيرة بدا إفلاس، والانحياز الطبقي، لسياسات الإفقار المباركية واضحا سواء في تأثيره على مستويات معيشة ودخول الملايين أو في التراجع العنيف لشرعية النظام الذي مازال يستند بالأساس إلى عصاه القمعية في البقاء. وفي ظل التصعيد المتوقع في هجمات اليمين الجديد المتمثل في حكومة لجنة السياسات فإن احتمالات انتفاضة جماهيرية ليست بعيدة أبدا خاصة في ظل الاحتقان الإضافي الذي تضيفه تطورات الوضع الإقليمي في فلسطين والعراق وخطة توريث الحكم. لكن مثل هذه الانتفاضة المحتملة ستواجه تحديا لا يمكن تجنبه.

فهذه الانتفاضات أطاحت بعدد لا بأس به من رؤساء الجمهوريات وأسقطت نظام سوهارتو الذي حكم إندونيسيا بالحديد والنار على مدى ما يزيد على ثلاثين عاما لكنها جميعا واجهت مأزق أنها سلمت مصيرها مرة أخرى لأنظمة لا تختلف جذريا عما أسقطته. هذا الخطر هو أمر كامن في طبيعة العملية الثورية ذاتها ويتوقف تجاوزه على عوامل كثيرة.

من أين ينبع هذا الخطر؟

الانتفاضة ليست ثورة رغم أنها يمكن أن تجهز الأرض لواحدة. فالجماهير التي شاركت فيها كانت مدفوعة للحركة بالعداء لبعض مظاهر النظام القائم. وهذا لا يصل لدرجة فهم الحاجة للإطاحة به كليا أو الثقة في إمكانية عمل ذلك. لكن هناك شيء أساسي متشابه بين الانتفاضات الجماهيرية والثورات برغم هذا الاختلاف. فتاريخ الثورات هو قبل كل شيء تاريخ دخول الجماهير القسري إلى عالم الحكم على مصيرهم الخاص.

وفي هذا الإطار لا يغير المجتمع مؤسساته عندما تظهر الحاجة لذلك، بتلك الطريقة التي يغير بها ميكانيكي أدواته. على العكس يأخذ المجتمع المؤسسات المعلقة عليه كمعطى مرة وللأبد. ولمدة عقود تكون الانتقادات المعارضة مجرد صمام أمان لعدم الرضاء الشعبي، شرط لاستقرار البناء الاجتماعي. وهناك شروط خاصة واستثنائية مستقلة عن إرادة الأشخاص والأحزاب تصبح ضرورية للانطلاق من الغضب لتمزيق قيود المحافظة والوصول بالجماهير للانتفاضة المسلحة.

على حد تعبير تروتسكي: التخلف المزمن للأفكار والعلاقات وراء الظروف الموضوعية حتى تلك اللحظة التي تنفجر فيها الأخيرة في صورة كارثة هو ما يخلق في فترة الثورة هذه القفزات في الأفكار التي تميزها.

والجماهير لا تثور وفقا لخطة معدة لإعادة البناء الاجتماعي لكن بإحساس قاطع بأنهم لا يمكنهم الاستمرار في تحمل النظام القديم. فقط الشرائح القيادية من طبقة تمتلك برنامجا سياسيا، وحتى هذا يتطلب اختبار الواقع والأحداث وإقرار الجماهير. لذلك فإن العملية السياسية الرئيسية للثورة على هذا الأساس تتكون في الفهم التدريجي الذي تكونه طبقة ما للمشاكل النابعة من الأزمة الاجتماعية وتوجهات الجماهير. وعندما تواجه الحركة عقبات موضوعية تبدأ الرجعية، خيبة الأمل في قطاعات مختلفة من الطبقة الثورية، نمو اللامبالاة، ومعها تقوية لمواقع القوى المعادية للثورة.

لهذه الأسباب فإنه حتى عندما تفتح الانتفاضة إمكانية لموقف ثوري، هناك فترة فاصلة تقفز فيها نسخ من الإصلاحية إلى المقدمة. يظهر كيرينسكي الذي قد يخلي مكانه للينين في مرحلة لاحقة أو لا. وفي كل انتفاضات العشر سنوات الماضية تولدت تنويعات إصلاحية من الهبات ضد النيو ليبرالية وحتى هذه اللحظة مازالت تحجب نور القوى الثورية.

التجربة الإندونيسية ومصر

إندونيسيا تحمل عناصر تشابه مع الوضع المصري أكثر من غيرها. فعلى العكس من انتفاضات أمريكا اللاتينية كانت انتفاضتها في مواجهة ديكتاتورية قمعية على رأسها رجل حكم البلاد ما يزيد على ثلاثين عاما. وهذا الوضع له خصوصية حيث تصبح الحركة الجماهيرية المنتفضة بلا أذرع تنظيمية قوية تستطيع الاستناد عليها لتطوير نفسها. غياب حق التنظيم النقابي وحق التنظيم السياسي وعملية القمع المستمرة للمعارضين تضعف بشدة من تأثير تلك الشرائح المتقدمة للطبقة العاملة أو تنظيماتها التي تكون صغيرة الحجم والتأثير بفعل الديكتاتورية مما يعرضها أكثر لما يطرحه الإصلاحيون.

في الثورة الإندونيسية حلت الجماهير على طريق مقولة تروتسكي التي أشرنا إليها في مطلع هذا المقال معضلات انتلجنسيا الطبقة الوسطى. وفي ظل غياب حزب ثوري مغروس في قلب الحركة كان الصوت المسموع هو صوت هؤلاء. ميجاواتي سوكارنو وأمين رئيس وأحزابهم التي صعدت على أكتاف حركة الجماهير التي حاصرت البرلمان لكي توقفها عند هذا الحد.

في إندونيسيا كانت الطبقة الوسطى غاضبة من النظام. فبحكم كونها حساسة بشكل عام للتخلف التكنولوجي وقلة كفاءة النظام والفساد الذي حرمها من فرص قيادية وفي نفس الوقت قاد النظام الاقتصادي والاجتماعي برمته للتراجع والانحدار، ولت هذه الطبقة وجهها للنظام. ولذلك لم يكن لديها أي مانع من إسقاط سوهارتو ونظامه على يد الفقراء لكنها في الوقت نفسه لعبت دورا هائلا في تحجيم الحركة سياسيا وطرح بدائل حجبت نور القوى الثورية على حد تعبيرنا سابقا.

في مصر، هناك موقف مشابه لذلك. قطاعات واسعة من انتلجنسيا الطبقة الوسطى غاضبة. نظام مبارك لم يعد قادرا على إدارة النظام بالكفاءة المطلوبة. دور هذه الانتلجنسيا أصبح محكوما بالفساد المتغلغل في النظام. والديكتاتورية وتيبس النخبة يخنق تطلعاتها. من هنا وعلى أرضية الغضب الجماهيري المكتوم وتصاعد أزمة النظام التي لم تعد خافية على أحد، بدأت نبرة النقد، التي لم تعد تمس أذناب النظام البعيدة، تزداد للغاية. لم يعد النقد في أوساط كتاب الأهرام ومركز دراساته وأمثال مجدي مهنا مقتصرا على هذا الوزير أو ذاك وإنما امتد لمبارك وأعمدة نظامه. ولا يخلو خطاب هؤلاء أيضا ـ الذين يحاصرهم فشل تكتيك التغيير من الداخل الذي أصبح مستحيلا ـ من إشارات إلى احتمالات تدخل جماهيري واسع. ولا يخفى هنا أن البدائل الإصلاحية التي قد تلعب نفس اللعبة قد تمتد إلى الإخوان المسلمين وإلى الناصريين وحتى قطاعات من اليسار الديمقراطي الأفق والغاية.

مواجهة هذا الخطر وتوسيع أفق الانتفاضة القادمة لها شروط موضوعية أشرنا لها من قبل لكن لها شروط ذاتية أيضا. يقول تروتسكي:"بدون منظمة مرشدة فإن طاقة الجموع ستتبدد كالبخار غير المحبوس في مكبس. لكن بالرغم من ذلك فإن ما يحرك الأشياء ليس المكبس وإنما البخار". المنظمة الثورية التي تستعد بكل طاقتها لتلك اللحظة أيديولوجيا وسياسيا وتنظيميا لا غنى عنها.

ويبقى أن أحد الدروس التي هي ليست الأخيرة من الانتفاضات العالمية هو أنها وإن لم تقد إلى ثورات لكن لم يتلق أولئك الذين شاركوا فيها أيضا هزائم نهائية. الإصلاح الجديد يبني نفسه على إعطاء وعود للجماهير وليس مواجهة شاملة للوضع. و عند نقطة معينة يؤدي تصاعد الضغط من النظام العالمي على مكوناته القومية الأضعف إلى تصاعد ضرورة هذه المواجهة.

كتبت في 15 أغسطس 2004


هناك تعليق واحد:

سلمى الليموني يقول...

مقال مثري جدا
و لكن هل تظن أن الانتفاضة في مصر قد مُهدت لها السبل بعد ثورة تونس؟ أم أن التناقض و الوعي لم يصلا الى أوجهما بعد؟
و ان افترضنا أنه قد وصل بالفعل للمرحلة التي تسمح بذلك,فهل سيكون هذا من مصلحة اليسار أم أنه سيتحول الى فوضى ما بين "السلف" أو "الاخوان" الأكثر تنظيما؟

تحياتي لك و للأسرة