السبت، 2 يناير 2010

نحو بناء حركة مناهضة للعولمة الرأسمالية في مصر

بقلم:
وائل جمال
مارس 2006
الاصدار: أوراق اشتراكية


كان وصول أحمد نظيف لرئاسة الوزارة منذ ما يقرب من عامين إشارة على نجاح الجناح النيوليبرالي المتطرف في الطبقة الحاكمة في فرض سيطرته على السياسة الاقتصادية، وبمرور الوقت بانت أبعاد الهجمة الطبقية الأكثر توحشًا في التاريخ المعاصر لمصر. في هذا الإطار تبدو الحاجة ملحة لبناء أوسع حركة قاعدية ممكنة ضد العولمة الرأسمالية في مصر. وائل جمال يدافع عن ضرورة وإمكانية خلق مثل هذه الحركة.

عندما تم تعيين أحمد نظيف رئيسًا للوزارة في يوليو 2004 استقبلت دوائر الأعمال في الداخل والخارج الخبر بترحاب شديد. وعلى مدى العشرين شهرًا التي قضتها حكومة صقور اليمين النيوليبرالي في السلطة شنت أوسع برنامج تحرير اقتصادي على خطى سياسات إجماع واشنطن (وهي السياسات التي تروج لها مؤسسات صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ووزارة الخزانة الأمريكية لصالح التحرير الكامل للأسواق وإنهاء دور الدولة في الاقتصاد وفتح الأسواق). برنامج يشابه في اتساع نطاقه وفي عدوانيته وشموله وسرعته ما تم تنفيذه من سياسات في أمريكا اللاتينية في التسعينيات. وهكذا تم إحياء وتسريع عملية الخصخصة في إطار برنامج يبدو أنه لن يتوقف عند حدود قطاع أو صناعة أو خدمة، وبدأت عملية إعادة هيكلة الدعم، وأعطى رجال الأعمال الضوء الأخضر. ليس هذا فقط، بل طور هذا الجناح نفوذه السياسي على الطبقة الحاكمة بوجود مكثف لرموزه ولرجال الأعمال في الحكومة وفي مجلسها النيابي الذي يفوق عدد رجال الأعمال فيه المائة عضو.

ويتداخل في هذا البرنامج الداخلي والخارجي بأوضح ما يكون. فمن ناحية هو تطبيق صريح لسياسات إجماع واشنطن التي حركت موجة الغضب العالمية ضد الليبرالية الجديدة، وفي مقدمتها نضالات أمريكا اللاتينية نفسها. وهي بهذا المعنى تجسيد لتوجه عالمي أصيل لدى يمين البرجوازية العالمية. ومن ناحية أخرى يظهر هذا التداخل بين الخارج والداخل بما يمثله البرنامج من سياسات تفتح الباب لاندماج الاقتصاد المصري في الاقتصاد العالمي بفتح الباب على مصراعيه للاستثمار الدولي والشركات العابرة للقوميات. ويمكن اعتبار الخصخصة وإجراءات تشجيع الاستثمار وقوانين الجمارك والضرائب الجديدة أعمدة أساسية لهذا التداخل.

أما على جبهة تحرير التجارة والخدمات فيدافع الصقور عن سياسة أكثر جذرية في فتح الأبواب والتوقيع على التزامات منظمة التجارية العالمية بل وحتى الضغط على باقي الدول النامية في هذا الإطار. وبينما تتحرك وزارة التجارة المصرية التي يقودها وزير من موظفي شركة عابرة للقوميات وأحد الشركات بها بسرعة لتنفيذ هذه الالتزامات بل وتطعيمها باتفاقيات من نوعية الكويز والتجارة الحرة مع الولايات المتحدة، تفرض حالة من التعتيم على الآثار العنيفة لمثل هذه السياسات على قطاعات واسعة من المصريين الفقراء: رفع أسعار الخدمات الرئيسية كالمياه والكهرباء والتعليم والصحة واستبعاد شرائح واسعة من الفقراء منها. تدمير قطاعات صناعية محلية لصالح الشركات العابرة للقوميات – كما يحدث في صناعة الغزل والنسيج مثلاً – وهو ما يعني تصفية آلاف العمال ورفع معدلات استغلال الذين يستمر توظيفهم.

فراغ في جبهة المقاومة:

وتأتي هذه التطورات بالغة الخطورة على خلفية فراغ هائل على جبهة المقاومة المحتملة. فحتى في الدول النامية – في إطار حركة مناهضة العولمة وخارجها – يلعب المجتمع المدني الدور الأكبر في المواجهة، حيث تقود جمعيات الصيادين ونقابات العمال واتحادات الفلاحين وجمعيات حماية المستهلكين حركة مقاومة بهذا القدر أو ذاك، وتلعب مثل هذه الجمعيات والاتحادات دورًا هامًا في التنسيق محليًا وعالميًا لوقف هذه السياسات وتعطيلها وفضحها.

وفي مصر، ومع غياب مثل هذا الدور الفاعل للمجتمع المدني لسبب أو لآخر، وعدم تبلور هذه القضايا على جدول أعمال الحركات البازغة (التضامن مع الانتفاضة ولرفض الاحتلال العراقي، وحركة التغيير الديمقراطي، أو حتى محاولات بناء جنين لمقاومة عمالية) فإن الساحة مفتوحة تمامًا للطبقة الحاكمة للحركة وتنفيذ مخططاتها. هذا الفراغ يجب ملؤه بأسرع وقت ممكن. وقد يكون البدء في بناء حركة مصرية شعبية لمناهضة العولمة الرأسمالية خطوة على طريق تنظيم مثل هذه المقاومة ولو بصورة دفاعية. لكن حركة من أي نوع بالضبط؟ وهل يمكن تجاوز الطابع النخبوي الذي تستدعيه إلى الذهن فكرة مناهضة العولمة؟

دروس من الوضع الراهن للحركة العالمية:

بدأت الحركة العالمية لمناهضة العولمة (أو كما أفضل تسميتها: حركة مناهضة العولمة الرأسمالية) كحصيلة لعشرين عامًا من النضالات المتفرقة البطولية ضد الليبرالية الجديدة وسياستها الاقتصادية المعادية لعمال والفقراء في العالم شماله وجنوبه. أي أن ما دشنته أحداث سياتل وإفشال مؤتمر منظمة التجارة العالمية في نهاية 1999 كان نتاجًا لهذه المقاومة بداية لمرحلة جديدة منها ضد نفس السياسات التي يواجه عمال وفقراء مصر طبعتها المتطرفة في العشرين شهرًا الماضية. لكن الحركة عند ولادتها تحمل العديد من العناصر غير القابلة للتكرار في مصر لا في الست سنوات الماضية ولا الآن. فالدفعة الهائلة التي تلقتها الحركة من خلال المنتديات الاجتماعية العالمية والمحلية، ومن خلال النشاط الهائل لجمعيات المجتمع المدني في شتى القضايا من الحماية التجارية لأنصار البيئة أو الأقليات العرقية.. إلخ، غائبة في مصر. كما أن الشكل التنظيمي للحركة العالمية ليس له أساس في مصر فهو شكل مصمم لاستيعاب أكبر عدد ممكن من المنظمات والجمعيات وهو وضع غير موجود بالمرة في مصر التي دمرت ديكتاتورية مبارك فيها مؤسسات المجتمع المدني تاركة الباقي منها غالبًا في مواجهة غير متكافئة.

لكن هذا التباين بين ظروف وسياق نمو الحركة في لحظة صعودها تلك وبين الظروف في مصر قد تراجع مع تراجع الحركة في السنتين الماضيتين. والمفارقة هنا أن تحول طبيعة الحركة العالمية وتطوراتها – بل وأزمتها – في السنتين الماضيتين قد تشكل نقطة للبدء في مصر. فإذا كان زخم الحركة قد تراجع بحيث لم نشهد جنوة أخرى أو سياتل أخرى في الفترة الأخيرة وتراجع وهج الحركة المناهضة للحرب على العراق والتي خرجت من رحم حركة مناهضة العولمة الرأسمالية، فإن الحركة لم تتوقف لكنها بدأت تواجه معضلات فرضت عليها مناقضة ومراجعة بعضًا من الأسس التي قامت عليها. فمن ناحية فرض السياسي نفسه على الحركة. وإذا كانت الحرب على العراق ذروة هذا الوضع ففي كل محطة للحركة في السنوات الأخيرة كانت السياسة على الأجندة. ويمكن هنا الإشارة لمعركة إسقاط الدستور الأوربي (تجسيد الاندماج الأوربي على هدى الليبرالية الجديدة)، أو إيقاف اتفاقية التجارة الحرة في أمريكا اللاتينية في قمة بيونس آيرس في الأرجنتين مؤخرًا.

ومن ناحية أخرى كان التطور الثاني في الحركة هو أن طابع تحركاتها أصبح يغلب عليه الطابع المحلي أكثر من الطابع العالمي. حقيقي أن وجود الحركة العالمية ملموس إلا أن مركز الطاقة المحركة انتقل لقوى محلية – قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى في أدنبره العام الماضي مثلاً والتي بالمقارنة بجنوة مثلاً كأنها صارت معركة محلية تعبر عن تجذر الشعور المعادي لليبرالية الجديدة في أسكتلندا. وأضفى هذا الوضع سمات جديدة على استهداف قمم ومؤتمرات المؤسسات المالية الدولية التي كانت مركز الحركة في السابق.

هذا الوضع الجديد يفرض على الحركة العالمية مراجعة فكرة استبعاد السياسة من أفقها ويفرض عليها أيضًا إعادة النظر في أسلوب عمل المنتديات التي لا تتيح للحركة فرز أولوياتها والتحرك بسرعة وفعالية في اتجاهها. فلم يعد من الممكن للحركة، كما يشير الاشتراكي الثوري البريطاني كريس ناينهام في مقال حديث له (أنظر عرض المقال ص 26)، التقدم للأمان بدون اجتذاب الملايين للتحرك وهو ما لا يمكن عمله لا باستبعاد السياسة (التي صار الجمهور يفرضها فرضًا في تحركات مناهضة العولمة مؤخرًا) ولا بالاقتصار على الدعاية العامة ضد الليبرالية الجديدة. بل أن التجارب الناجحة في إطار الحركة قد بنيت على العكس تمامًا فانبنت على حملات واسعة للتعبئة على قضية واحدة محددة كالدستور الأوربي.

وهكذا فإن نوع الحركة المطلوب يجب أن ينبع من معكوس ما انبنت عليه الحركة العالمية في بدايتها. يجب ألا تتجاهل السياسية وكل المناقشات الخاصة بها لكن في إطار العمل المشترك والجبهات الواسعة، لكنها أيضًا لكي تجذب أوسع جمهور ممكن ممن لهم مصلحة حقيقية في الوقوف ضد الليبرالية الجديدة فإن عليها أن تكون قادرة على تحديد أولويات حركتها بدقة. يجب أن تكون قادرة على تحديد أي الحملات هي المركزية في هذه اللحظات للتعبئة والحشد ولإنجاز أكبر تعطيل ممكن للمشروع الليبرالي الجديد أو حتى إعطابه. هذا الإطار العام يصلح بامتياز للانطلاق منه في مصر.

بناء حملة ضد الخصخصة في مصر:

لماذا الخصخصة كنقطة البدء؟ الحقيقة أن الخصخصة هي العنوان الرئيسي في الهجمة النيوليبرالية في مصر. ويتقاطع البرنامج الطموح الذي يمثل أكبر عملية بيع في تاريخ برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري مع باقي جوانب المشروع النيوليبرالي برمته. بل يمكن القول إنه العمود الأساسي له. فبرنامج الخصخصة هو الطريق الأساسي لاقتحام الشركات عابرة القوميات والشركات العربية الكبرى لقطاعات الخدمات وللصناعة عبر خصخصة الأولى وبيع الشركات العامة في قطاعات كالأسمنت الذي تسيطر الشركات العابرة للقوميات على تسعين في المائة من إنتاجه بالفعل. وهو أيضًا الطريق لإنعاش الاستثمار الأجنبي المباشر – وهو بهذه الصورة واحد من حلقات دفع التراكم الرأسمالي. أيضًا الخصخصة هي وسيلة لزيادة معدلات الاستغلال بزيادة الإنتاجية وتقليص نفقات العمل عبر تصفية جزء من العمالة بإعادة هيكلة الشركات قبل بيعها. عملية الخصخصة أيضًا هامة في تدعيم سلطة ونفوذ القطاع الخاص والجناح السياسي الذي يمثله مباشرة في الطبقة الحاكمة على حساب البيروقراطية التي شكلت مركز قوة رئيسي في الطبقة الحاكمة على مدى فترة حكم مبارك. (أنظر قضية بيع البنك المصري الأمريكي لمجموعة يمتلكها وزيرا النقل والإسكان).

ولا يقتصر الأمر على هذا. فبوادر المقاومة قد ظهرت بالفعل على الساحة العمالية. وفي محطاتها الرئيسية: إضرابات إسكو وطرة للأسمنت وغزل شبين، بدا واضحًا ما يمكن أن يفرزه توسع البرنامج الذي رغم أنه تسارع بمعدلات كبيرة في الفترة الماضية، إلا أنه ما زال ينتظر دخول قطاعات الاتصالات والبنوك والمواصلات والسكك الحديدية، إلى جانب عدد من المعاقل الصناعية الكبرى والعمالية الكبرى أيضًا كالحديد والصلب ومجمع الألمونيوم وغيرها.

بهذا فإن البدء في أوسع حملة ضد الخصخصة تنطلق منها لتفضح مجمل المشروع الليبرالي الجديد المعلوم وتبني جنين المقاومة الشعبية له يصبح ضرورة يجب أن يتقدم لها النشطاء ضد العولمة الرأسمالية. وهكذا تكتسب الحملة التي يدشنها المنتدى العمالي بمؤتمر القاهرة أهمية بالغة في هذا السياق. حيث يمكن أن تكون هذه الحملة التي يجب أن تضم أوسع نطاق ممكن من القوى المعادية لهذا البرنامج هي نقطة الانطلاق على طريق بناء حركة شعبية قاعدية ضد العولمة الرأسمالية في مصر.

ليست هناك تعليقات: