الخميس، 15 أكتوبر 2009

توشكي: نموذج لسياسة مبارك الاقتصادية


مايو 2006

عاد مشروع توشكي لبؤرة الضوء مرة أخرى بعد أن توارى في الظل لفترة، بعد تعثره البالغ في السنوات الأخيرة. وائل جمال يستدعي تجربة عشر سنوات منذ البدء فيه، ويحاول تفسير عودة النقاش حول مشروع يمثل فشله فشل كل العناصر الرئيسية في سياسة مبارك الاقتصادية.

رحلات منتظمة للصحفيين والإعلاميين والسياسيين لزيارة مشروع توشكي على الأرض. أخبار تتسرب للصحف حول إعادة المشروع للحياة كنتاج لجهود حكومة نظيف، بعد نجاح واحد من رجال لجنة السياسات، رئيس الشركة القابضة التي تتبعها شركة جنوب الوادي هادي فهمي، والذي يرأسه مباشرة محمود محيي الدين في استصلاح سبعة آلاف فدان هناك. وفي المقابل، استجوابات في مجلس الشعب تطالب بكشف حساب عن المليارات التي أنفقت هناك. وهكذا يعود الجدل حول واحد من أهم جوانب السياسة الاقتصادية في سنوات حكم مبارك الخمسة وعشرين إثارة للجدل.

كان هذا المشروع قد ظهر فجأة بعد زيارة لمبارك لمنطقة النوبة لافتتاح مفيض توشكي في مطلع عام 1996. ورافقته حملة هائلة عما أطلق عليه في الصحافة الرسمية المشروعات القومية الكبرى في عهد "النهضة المباركية" (ترافق معه مشروعات حديد أسوان، وشرق التفريعة، وترعة السلام، وشرق العوينات). ووعدت الحملة بخلق وادي أخضر جديد للنيل، وتخفيف الكثافة السكانية في الوادي القديم بتعمير جنوب مصر، وحل مشكلة البطالة، ودفع إنتاج مصر الزراعي، وتفعيل استخدامها لثروتها المائية. هذا بالطبع إلى جانب اقتحام الأسواق العالمية بصادراتنا الزراعية! بالتأكيد مآل هذه الأهداف واضح بالنسبة لنا جميعاً، لكن قصة هذا المشروع جديرة بالنظر كتجسيد للطريقة التي تدير بها البرجوازية بزعامة مبارك سياساتها الاقتصادية وموارد مصر على مدى العقود الماضية.

المشروع

مشروع استصلاح الأراضي في توشكي، التي تقع على بعد 220 كيلومتراً جنوب غرب أسوان على الجانب الغربي من بحيرة ناصر، وعلى مسافة سبعين كيلومتراً من الحدود السودانية، هو فكرة قديمة طرحت في الستينيات في إطار رفع كفاءة استخدام موارد مصر المائية. لكن الفكرة لم تتجاوز الورق الذي كتبت عليه وقتها بسبب شك الحكومة في جدواه. ثم عاد المشروع مرة أخرى في مطلع الثمانينيات في إطار دراسات لزيادة الرقعة المأهولة بالسكان في مصر من خمسة في المائة إلى خمسة وعشرين في المائة وزيادة الأراضي الزراعية من 8 مليون فدان إلى 11,4 مليون بحلول عام 2017. وفي القلب من هذه الأفكار جاء مشروع تنمية جنوب الوادي. وكان هدف المشروع هو استصلاح مليون فدان في مناطق توشكي وشرق العوينات والوادي الجديد بتكلفة 300 مليار جنيه مصري على مدى عشرين عاماً، تتحمل الحكومة مابين عشرين إلى خمسة وعشرين في المائة منها بينما يتحمل القطاع الخاص الباقي.

وبعد زيارة مبارك لافتتاح مفيض توشكي في 1996 في أعقاب واحد من أكبر الفيضانات التي شهدتها مصر في العقود الأخيرة، أعلن عن أن الجزء الخاص بتوشكي من المشروع على أجندة الحكومة وبدأ العمل فيه فعلياً في يناير 1997. ويهدف الجانب الخاص بتوشكي داخل مشروع تنمية جنوب الوادي إلى استصلاح وزراعة 550 ألف فدان وريها بمياه تسحب مباشرة من بحيرة ناصر عبر قناة تشق في صخور النوبة وتبطن بالأسمنت عند أدنى مناطق البحيرة منسوباً لضمان إمداد المنطقة بالمياه في كل الأحوال. ثم ترفع المياه بعد ذلك لارتفاع خمسين متراً لكي تصل لمنسوب الأرض عند توشكى منحدرة بعد ذلك لمناطق الاستصلاح. وقدرت كمية المياه اللازمة لري هذه الأراضي بحوالي 5 مليارات متر مكعب ترفع عبر محطة ضخ هي من أكبر محطات الضخ في العالم.

وتم تقسيم الأرض إلى أربعة مناطق تتراوح كل منها بين 100 ألف و155 ألف فدان، تقع اثنتان منها شمال القناة واثنتان جنوبها. وكانت الخطة أن تقوم الحكومة بمد القنوات وضخ المياه وتوصيلها لمناطق الاستصلاح وإقامة البنية الأساسية ومد الطرق وإقامة المطارات وتوصيل الكهرباء. بينما طرحت الدولة الفدان بسعر رمزي بعد كل ذلك يصل إلى خمسين جنيها للفدان (أربعة في الألف من تكلفة الفدان). وكانت الخطة أيضاً أن تبلغ جملة استثمارات الحكومة في إقامة هذه البنية الأساسية حوالي 6.2 مليار جنيه. وبعد الانتهاء من إنشاء البنية الأساسية في 2002 ـ كما كانت الخطة تقول ـ كان من المزمع استصلاح مائة ألف فدان سنوياً لمدة ثلاث سنوات ثم عشرين ألف فدان سنوياً لينتهي المشروع تماماً بحلول 2017. وبحلول ذلك الوقت يكون عدد سكان المنطقة قد بلغ 2 مليون شخص.

الواقع

على مدى السنوات الماضية، وعلى العكس من الطبول التي صاحبت بدايته، توارى المشروع إلى الظل. وتجنبت الصحافة الرسمية حتى الإشارة إليه عدا في المرات القليلة التي زار فيها مبارك الموقع. والحقيقة أن المشروع لم يتحرك كثيراً على مدى ما يقرب من نصف المدة المقررة لإنهائه. فبرغم قيام الحكومة بإنفاق ما يقرب من 17 مليار جنيه مصري على البنية الأساسية (التقديرات الرسمية تتجاوز الخمسة مليارات بقليل لكن جميع الخبراء الاقتصاديين يرفضون الرقم)، فإن ما تم استصلاحه حتى هذه اللحظة لا يتجاوز سبعة آلاف وخمسمائة فدان من بين ثلاثمائة ألف كان مخططاً لها. أغلب هذه الأراضي قامت باستصلاحها شركة جنوب الوادي في العامين الماضيين في الوقت الذي لا تتجاوز فيه مساحة الأراضي التي تمت زراعتها في المساحة الوحيدة التي تم تخصيصها لمستثمر خاص هو الوليد بن طلال ستمائة فدان حتى الآن. وبالمقارنة بـ 2 مليون شخص كان من المفترض أن ينتقلوا للحياة في توشكي عبر توفير 700 ألف فرصة عمل جديدة ، هناك 15 ألف شخص يعيشون هناك الآن، أغلبهم عمالة مؤقتة بينما مازالت مدينة توشكي الجديدة حبراً على ورق. ومازالت جهود الحكومة في إقناع مستثمرين خاصين برغم كل التسهيلات تواجه حائطاً سداً. وهكذا فإن أكثر من مائتي ألف فدان لم يتم تخصيصهما للآن. وتتوقف طموحات هادي فهمي وشركته عند الزراعة بالوكالة للشركات في مقابل تسليم المحصول المزروع لها (على سبيل المثال، زراعة الشعير لحساب شركة الأهرام للمشروبات). وذلك شريطة نجاح شركة جنوب الوادي في إضافة 30 ألف فدان أخرى للأراضي المزروعة بحلول يناير 2007.

والحقيقة أن خبراء وعلماء مهمين على رأسهم شيخ الجيولوجيين د. رشدي سعيد قد توقعوا إلى حد بعيد ماحدث في توشكي منذ البداية. فمن ناحية كان هناك تساؤل حول صحة توجيه عشر دخل مصر المائي للمشروع مع الوضع في الاعتبار أن فيضان 1996 كان استثنائياً وأن مصر تعاني بالفعل من نقص متزايد في مواردها المائية. هذا بالإضافة إلى أن ارتفاع درجات الحرارة الهائل في المنطقة (تصل إلى خمسين درجة مئوية) يرفع معدلات البخر بطريقة هائلة وهو الأمر الذي يجعل الهدر كارثيا، ويوقف عملياً الزراعة لمدة ثلاثة أشهر من السنة. أيضاً قدر رشدي سعيد منذ البداية أن عدد فرص العمل التي سيخلقها المشروع لن تتجاوز الثلاثين ألف فرصة عمل خاصة مع ضرورة اعتماد منطق الزراعة الرأسمالية الواسعة لكي تكون الزراعة اقتصادية (وهو ما يتناقض مع فكرة انتقال الشباب للعيش هناك وامتلاك أرضهم الخاصة واستصلاحها التي لعبت عليها الدعاية للمشروع في بدايته).

وقارن سعيد ومنتقدو المشروع بينه وبين الفرصة الاقتصادية البديلة التي كانت لتنتج عن إنفاق جزء من الأموال الباهظة التي أنفقت عليه مثلا لتحديث شبكة الري المتقادمة بطول وعرض الجمهورية في وقت تحتاج فيه مصر، التي يقطنها 72 مليون نسمة، يعيشون على 8.3 مليون فدان من الأرض الزراعية في وادي النيل والدلتا، بشدة لتوسعة الأراضي الزراعية. خاصة أن هذه الأموال الباهظة التي أنفقت على توشكي وغيرها من مشروعات مبارك القومية الأخرى، انتهى أغلبها بعد قضايا فساد عنيفة إلى أزمة سيولة خانقة في الاقتصاد المصري. أما عن قضية إمداد مصر بحاجتها الاستراتيجية من القمح، وهي فكرة كانت محوراً للدعاية أيضاً فقد صارت محل شك بالغ بالذات مع اتجاه الحكومة الجديدة للتركيز على محاصيل أخرى أكثر ربحية، بالذات التي يمكن تصديرها للخارج.

نموذج لسياسات مبارك الاقتصادية

سوء التخطيط وإهدار الموارد والفساد والانحياز ضد مصالح الفقراء والاستغلال السياسي. كل هذه سمات أساسية للسياسات الاقتصادية التي اتبعها نظام مبارك على مدى ربع قرن. ومشروع توشكي بحكم الموارد الهائلة التي وجهت له هو نموذج واضح لكل هذه السمات. فالمشروع لم يقم على دراسة ذات قيمة علمية للبدائل المختلفة للتعامل مع ازمة التكدس السكاني في الشريط الضيق في الوادي. وهو بالتأكيد قام على إهدار مالي ومائي هائل لموارد مصر الاقتصادية.

أما عن الفساد وغياب الشفافية، فحدث ولا حرج. وتكفي هنا الإشارة إلى عملية تخصيص مايزيد على مائة ألف فدان للملياردير السعودي الوليد بن طلال بسعر يصل إلى خمسة ملايين جنيه (هناك بعض الشقق في القاهرة يتجاوز سعرها هذا الرقم). ليس هذا فقط، بل إن عقود التخصيص لم تضع أية شروط لا زمنية ولا من حيث النشاط الاقتصادي على الوليد، الذي يتمتع بعلاقة خاصة مع مبارك شخصياً ومع نظامه. (قارن ذلك بعقود الاستصلاح اليتيمة التي تعطى للشباب، وتشترط استصلاح الأرض في مدد زمنية محددة وإلا تسحب منهم الأراضي. هذا بالإضافة إلى انعدام كامل للشفافية فيما يخص المشروع. فحتى الآن ليس هناك تقديرات رسمية واضحة عما تم إنفاقه. وليس هناك تقديرات واضحة للجدوى الاقتصادية للمشروع.

ويقوم المشروع بوضوح على إنحياز لمنطق الرأسمالية الكبيرة في الزراعة. وهي بالتالي تقدم دعما بالمليارات من خلال البنية الأساسية لتضمن تحقيقها لأرباح ـ بغض النظر عن أنه حتى ذلك لم يجذب الرأسمالية الكبيرة للمكان. وفي الوقت نفسه تسحب الحكومة دعم الفقراء وتقلص إنفاقها الحقيقي على الخدمات العامة.

ونظرة سريعة على أوضاع العاملين القليلين الموجودين في توشكي تبين أي ظروف يعملون بها. وبرغم أن الأجور المعلنة تصل لستمائة وثمانمائة جنيه شهرياً إلا أن الحياة هناك صعبة للغاية. وتقول جريدة الوفد في تحقيق لها إن "العاملين المساكين الذين تصوروا أنهم وجدوا فرصة عمل جيدة في مشروع دائم، دخلوا في معارك مع وزارة الموارد المائية والري للحصول علي مستحقاتهم. ولأن اصحاب الحقوق أصبحوا بالآلاف فقد تم رفع مئات الدعاوي القضائية ضد الوزارة من هؤلاء العاملين، حصل بعضهم علي أحكام قضائية، تعطيهم الحق في الحصول علي مستحقاتهم. وبعض الدعاوي الأخرى مازالت متداولة أمام القضاء وقد نفذت الحكومة بعض هذه الاحكام ومازالت تقوم بتدبير مستحقات البعض الآخر!!"

توشكي والسياسة الآن

منذ اللحظة الأولى للتفكير فيه، كان مشروع توشكي محملاً بالسياسة ومخصصاً لخدمة السياسة. فقد طرح المشروع في إطار خلق مساحة تعبئة وراء النظام على أساس التزامه بمشروعات كبرى. ولا يمكن الفصل بين عودة توشكي للصورة مرة أخرى وبين الوضع السياسي الآني في مصر. فمن ناحية تحاول حكومة نظيف إثبات أنها قادرة من خلال مشروعها النيوليبرالي الفج على تحقيق ما فشلت فيه أجنحة البرجوازية الأخرى على مدى السنوات الماضية. ومن ناحية أخرى، فإن المناخ السياسي السائد في مصر والذي يضع تحت التقييم والنظر سنوات حكم مبارك برمتها سمح بوضع المشروع مرة أخرى تحت دائرة الضوء كأحد أكبر عمليات إهدار موارد مصر في تاريخها المعاصر. والأكيد هو أن توشكي وما حدث فيها يثبتان بما لا يدع مجالاً للشك أنه لامجال لطموحات المصريين العمرانية أو الاقتصادية الكبرى في منظومة ماكينتها الرئيسية أرباح رجال الأعمال وليس مصلحة الأغلبية الكاسحة من الكادحين.

ليست هناك تعليقات: