قبل تسعة وثمانين عاما، وفي مثل هذا الشهر، أسقطت الجماهير العمالية في واحد من أهم انتصاراتها – إن لم يكن الأهم على الإطلاق – واحدا من أعتى الأنظمة ديكتاتورية، وفتحت الباب لبشائر نظام جديد يسعى لتحقيق العدالة والحرية والمساواة بأيدي الجماهير الكادحة. الثورة الروسية في 1917 (أكتوبر بالتقويم القيصري الروسي القديم ونوفمبر بالتقويم الغربي) كانت مصدر الإلهام للثوريين في كل مكان ومازالت. لكنها تتعرض لهجوم شديد في السنوات الأخيرة سواء من موقع البرجوازية أم من مواقع اليسار. وهو الأمر الذي وجد أرضا خصبة أولا في ظل ما فعلته الستالينية بالمقهورين والعمال في الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية، ثم بعد ذلك بصورة قد تكون أعمق بعد انهيار رأسمالية الدولة الستالينية. لكن حقا هل هناك ما يمكن التعويل عليه في تراث هذه الثورة الكبرى في معارك اليوم ونحن نقترب من تجاوز السنة السادسة من القرن الحادي والعشرين؟
الجماهير ثم الجماهير
"لم يستلم البلاشفة السلطة نتيجة مساومة مع الطبقات المالكة أو مع القادة السياسيين الآخرين، ولا بإرضاء جهاز الحكومة القديم، ولا عن طريق عنف منظم مارسته فئة قليلة العدد. فلو لم تكن الجماهير في كافة أنحاء روسيا مستعدة للانتفاضة لأخفقت محاولتها". هكذا كتب الصحفي الأمريكي الثوري جون ريد في كتابه "عشرة أيام هزت العالم" الذي خطه من واقع تجربته الحية مع ثورة أكتوبر. والحقيقة أن الدور التاريخي غير المسبوق للجماهير الروسية في إسقاط القيصرية لم يقف فقط عند إعطاء الزخم والطاقة والثقل السياسي للاشتراكيين لإنجاز برنامجهم للتغيير، وإنما كانت الجماهير بدورها المركب هي صانعة الثورة وما تلاها بحق.
هذه الحقيقة التاريخية تبقى معنا للحاضر لترد على الكثير مما يطرح الآن للتشكيك في قدرة الجماهير على اعتلاء المسرح السياسي للصراع الطبقي وتوجيهه لمصلحتها.
أولا، ردت جماهير روسيا، ومازالت ترد، على فكرة أن الجماهير جاهلة ولا تمتلك الوعي الكافي للتغيير. ففي روسيا القيصرية تجلت المظاهر التي تدعم مثل هذا الموقف بكل صورها: انتشار هائل للأمية ومعها الخرافات والإيمان الخزعبلي بالغيبيات، ضعف حاد في المجتمع المدني وعقم للبرجوازية في تقديم برنامج الإصلاح الليبرالي، رأسمالية تنمو بسرعة لكنها تعاني من تخلف ملحوظ عن منافسيها في أوروبا بما يعنيه ذلك اجتماعيا وطبقيا (وهي نقطة سنعود لها لاحقا).
في المعركة كشفت الجماهير وجهها الحقيقي. يقارن تروتسكي، القائد الاشتراكي الثوري الروسي، في كلاسيكيته تاريخ الثورة الروسية، بين وضع الجماهير الروسية قبل وأثناء الثورة: "إن أهم سمة لا شك فيها للثورة هي التدخل المباشر للجماهير في الأحداث التاريخية. في الأوقات العادية، تضع الدولة، سواء ملكية أم ديمقراطية، نفسها فوق الأمة. ويصنع التاريخ بواسطة الأخصائيين في هذا الفرع من النشاط أو ذاك – الملوك، الوزراء، الموظفون البيروقراط، البرلمانيون والصحفيون. لكن في هذه اللحظات الحاسمة عندما يصير النظام القديم غير محتمل بالنسبة للجماهير، فإنهم يحطمون الحواجز التي تستبعدهم من الساحة السياسية ويجرفون جانبا ممثليهم السياسيين التقليديين ويخلقون بتدخلهم هم الأرضية الأولية لنظام جديد".
في هذا كانت الجماهير تسبق الجميع بمن فيهم الثوريون. وإذا نظرنا لحجم التضحيات التي قدمتها من أجل هذا النظام الجديد، هذا الأفق الجديد لحياة أفضل، سواء خلال الإضرابات العمالية الأولى أم خلال الحرب الأهلية يمكن أن نفهم حجم الطاقة الكامنة في هذا الكيان الذي يبدو وهميا وأسطوريا في أحيان كثيرة. واليوم، ما أحوج العالم لهذا النظام الجديد البديل الذي يقضي على تناقضاته المتفاقمة ويعيد للإنسان إنسانيته في مواجهة آلة الرأسمالية الكاسحة اقتصاديا وعسكريا. وقد يكون هذا هو بالضبط ما أعاد الجماهير مرة أخرى، بعد أن أعلن الكثيرون نهاية عصرها، إلى المقدمة. فقط أنظر إلى ما حدث في الأرجنتين وصربيا وإندونيسيا وفنزويلا والإكوادور وبوليفيا، وما يحدث في الأراضي الفلسطينية وعلى ساحة المقاومة العراقية. فقط أنظر إلى ما حدث في سياتل وجنوة وفي الحركة ضد الحرب.
ثانيا، في الثورة الروسية لم تكن الجماهير كتلة غير متجانسة، بل كانت لها قيادة طبقية واضحة: الطبقة العاملة. وفي روسيا المتخلفة كانت الطبقة العاملة أقلية بالنسبة لعدد السكان. وكانت حديثة التكوين. لكن وضع التوازن السياسي وطبيعة تكوين الطبقة العاملة ودورها الاجتماعي عموما وخصوصية نشأتها الروسية (ما يطلق عليه تروتسكي التطور المركب واللا متكافئ) جعلتها أولا قادرة وثانيا عازمة على خوض غمار المعركة الطبقية للاستيلاء على السلطة. والآن نسمع الكثير عن الطبقة العاملة. نسمع أنها غير موجودة في مصر وفي دول العالم الثالث لأن الرأسمالية والبرجوازية لم يتطورا كنسخة كربون من الغرب. ونسمع أنها انتهت لصالح الطبقة الوسطى. ونسمع أنها دجنت. بل ونسمع أنها غير راغبة في التغيير.
وبالنظر للطبقة العاملة إبان ثورة أكتوبر والآن لابد وأن نلاحظ العديد من التغيرات سواء في ثقل العمال الصناعيين وفي طبيعة عملية الاستغلال والتطور التكنولوجي للرأسمالية الذي ينعكس على علاقات العمل إلى جانب نمو قطاع الخدمات والقطاع المالي غير المعهود. لكن الأكيد هو أن هذه الطبقة لم تنقرض ولم تختف بل زادت حجما وتأثيرا ونفوذا. طبقة العاملين بأجر الذين يتعرضون لنزح فائض القيمة, وتتناقض مصالحهم استراتيجيا مع البرجوازية (أنظر للطبقة العاملة التي أضافها النمو الاقتصادي الهائل في شرق آسيا على سبيل المثال). بل إن هذه الطبقة لم تترك الساحة السياسية أصلا ومازالت تكشف عن قوتها وقدرتها وأسلحتها في مناسبات عدة. (إضراب فرنسا في 1995 ومعركة قانون العمل الأخيرة العام الحالي هناك، وإضرابات كوريا الجنوبية التي أسقطت الديكتاتورية، والعديد من الإضرابات العامة في جميع أنحاء المعمورة). وفي كل مواجهة من المواجهات الشعبية من أجل الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وغيرها كان العمال في المقدمة. المعركة الطبقية التي مثلتها ثورة 1917 بالتالي معركة قابلة للتكرار بل صارت الحاجة لها أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
ثالثا، كانت تجربة الجماهير العمالية والشعبية الكادحة في روسيا الثورية واحدة من أعمق التجارب الديمقراطية في التاريخ الإنساني حتى الآن. ديمقراطية تعطي للشعب مصيره بحق في يده إذ تجمع بين السياسة والاقتصاد بشكل لم يوفره نظام لا قبلها ولا بعدها. الديمقراطية التي بزغت شمسها مع الثورة الأولى في فبراير 1917 وجدت جذورها في المصانع والمجتمعات المحلية. وأسس الملايين من العمال والمدرسين والطلبة والجنود وغيرهم لجانا في كل المواقع لتكون هذه المؤسسات الديمقراطية الأولية مقدمة لتأسيس المجالس العمالية (السوفييتات). في هذه اللجان الانتخاب هو القاعدة الأساسية في كل المستويات (مع حق استعادة المنتخبين وتغييرهم في أي وقت) منتجة بذلك أكبر "انفجار" للديمقراطية الشعبية في التاريخ وهي حقيقة مورست بأوسع نطاق ممكن لتلقي في المزبلة بمزاعم اقتصار الثورة الروسية على تحرك للأقلية.
وفي البداية كان لهذه المجالس دور دفاعي لكن مع مرور الأيام واتجاه المعركة صوب أكتوبر أصبحت المجالس العمالية هي السلاح الأول لصياغة وتنفيذ إرادة الجماهير الديمقراطية. ويمكن الإشارة هنا إلى ما فعلته هذه المجالس بالنسبة للتمييز ضد المرأة وإجراءات حاسمة لإلغاء الفوارق الطبقية وحماية حق التنظيم النقابي وإلغاء التراتبية في الجيش، بل إلغاء مؤسسة الجيش القمعية ذاتها واستبدالها بالميليشيات العمالية. لكن الجانب الأهم هو أن القرار الاقتصادي الإنتاجي في المجتمع صار في يد المنتجين في مواقع الإنتاج. عجلة الإدارة انتقلت بمنتهى السلاسة من أيدي الخبراء إياهم إلى أيدي أصحاب المصلحة.
قارن هذه الديمقراطية بأعتى النظم الديمقراطية في عالمنا المعاصر. ما أبعد هذه الروح وهذا الزخم عن عفن الفضائح والفساد السياسي والاغتراب عن مصالح الجماهير واغتراب الجماهير عن صناعة القرار السياسي الحادث حاليا. وما أبعد هذه الديمقراطية المباشرة الحرة المتجددة عن تجويع الملايين وإبقائهم تحت وطأة البطالة والمرض وتدمير البيئة لصالح قوانين السيطرة الطبقية لحفنة من رجال الأعمال وهي قوانين تصور زورا وبهتانا على أنها أبدية أو فوق طبيعية. بل إنه في كل غليان صغير أو بروفة مصغرة لسلطة الطبقة العاملة نستطيع أن نرى جنين الديمقراطية العمالية حيا يرزق. ليس فقط قدرة العمال على إدارة شئونهم ديمقراطيا بل أيضا قدرتهم على اتخاذ السياسات السليمة لإدارة شئونهم. ولا يقتصر المثل على ذلك على حركة الاستيلاء على المصانع في الأرجنتين بل يمكن أن نستدعي للذاكرة مثل لا يعرفه الكثيرون هو عمال مصنع المصابيح في العاشر الذين سيطروا على مصنعهم وأداروه لصالحهم بل طوروه بنجاح قبل أن يعود صاحبه للاستيلاء عليه.
الحزب
ترافقت الأجواء الديمقراطية التي خلقتها ثورة فبراير، وتعمقها مع تطورات الصراع، مع انشغال الملايين بالسياسة وتحولهم يسارا يوما بعد يوم. صب هذا بمرور الوقت في مصلحة البلاشفة. لكن الأخيرين الذين بنوا حزبهم على مدى سنوات في رحم المقاومة الطبقية العمالية، في مئات وآلالاف الإضرابات العمالية الصغيرة، وفي خضم كل المعارك الطبقية الكبرى التي شهدتها روسيا، هؤلاء كان لهم دورهم. ففي المعركة لا تختفي الطبقة الحاكمة هكذا في طرفة عين بمؤسساتها العسكرية والسياسية والاقتصادية. بل تخوض الطبقات الحاكمة نضالا مريرا دفاعا عن مواقعها. وفي هذه المعركة كان للبلاشفة بتنظيمهم المركزي الديمقراطي فضل قيادة الطبقة على الأرض. القيادة التي تنبع من أسفل لتكون قادرة على اتخاذ القرارات اللازمة لضمان الإجهاز على العدو. ومن ثم كان البلاشفة هم الذين خططوا لموعد انتفاضة أكتوبر. ولم تكن لا ديمقراطية المجالس العمالية ولا الحرب البطولية التي خاضها العمال الثائرون دفاعا عن نظامهم الجديد ممكنة بدون كوادر البلاشفة وتضحياتهم.
والآن مع بزوغ الحركة المناهضة للحرب والرأسمالية عاد سؤال الحزب مرة أخرى. وداخل الحركة يهاجم الكثيرون الأحزاب الثورية على النمط البلشفي من منطلق أنها معادية للديمقراطية بطبيعتها لدرجة أن بعض هؤلاء يصمون الثورة الروسية نفسها بأنها انقلاب للأقلية البلشفية. لكن تطور الحركة العالمية وتطور هذا الجدل داخلها بين أنصار الحزبية وأعدائها يؤكد بوضوح أن الواقع لا يعمل في مصلحة الأوائل. فتطوير الحركة وتعميقها وتجذيرها وتوسيعها للمزيد من الأنصار والأعضاء أصبح يفرض وجود الحزب الثوري الذي ينطلق من نضالات الجماهير وينظمها.
الأممية
كان شعار "يا عمال العالم اتحدوا" شعارا رئيسيا في الثورة الروسية. بل ودافع قادة البلاشفة مرارا وتكرارا عن أن الثورة العالمية ضرورة لاستمرار ونجاح الثورة الروسية. الأكثر من ذلك هو أن الثورة الروسية إنحدرت بالضبط بسبب فشل الموجة الثورية التي ألهتمها في ألمانيا والمجر وبريطانيا. الأممية التي رفعت شعارها ثورة أكتوبر لم تعد الآن فقط ضرورة سياسية بل صارت إمكانية أوضح بكثير. تعالوا ننظر للمستغَلين حول العالم. كلهم بلا استثناء صاروا يعانون نفس المشاكل تقريبا. ونفس السياسات (سياسات إجماع واشنطن لتحرير الأسواق وسيطرة اليد الخفية والسافرة لرأس المال) تطبق في كل مكان تقريبا. هذا الوضع خلق تقاربا أمميا تاريخيا بين مصالح المضطهدين في العالم كله.
بل إن نمو الشركات العابرة للقوميات الذي تغزو كل يوم بقعة جديدة في العالم صار يجسد وحدة مصالح عمال العالم كما لم يحدث من قبل. وقبل سنوات قليلة خاض عمال رينو الفرنسية في بلجيكا إضرابا تضامنيا مع عمال أحد مصانع الشركة الذي أغلق في فرنسا، ونفس الشيء حدث في إضرابات لعمال جنرال موتورز التي كانت وقتها أكبر شركة عابرة للقوميات في العالم. عولمة رأس المال جعلت شعار "يا عمال العالم اتحدوا" أكثر إلحاحا وأعلى إمكاناً. وعلى غير الحال وقت ثورة أكتوبر حينما كان العالم يعرف بأنباء ما يحدث بعدها بأسابيع الآن يشاهد الناس الثورة على الهواء بما في ذلك من إلهام ثوري جبار. بل تستخدم الحركات الاجتماعية هذا التقارب الإعلامي الثوري لتنظيم المستغَلين والمحتجين على نطاق عالمي كما تجسد في مظاهرة الخامس عشر من فبراير عام 2003 ، التي شارك فيها الملايين من جميع أنحاء العالم على شعار واحد ولهدف واحد.
"ثورة أكتوبر كانت باختصار ذروة حركة جماهيرية هائلة، قادها نحو السلطة حزب طليعي مندمج بالجماهير، حزب كان يتطلع قبل كل شيء لتحقيق مطالب السكان الأكثر إلحاحا في حين يتطلع إلى أهداف اشتراكية عالمية وقومية أشد اتساعا" وعلى حد وصف مكسيم جوركي الكاتب والأديب الروسي فهي رصيد لـ"كل من يرى بشرف أن تطلع البشرية المتعذر كبته إلى الحرية والجمال، وحياة يوجهها العقل، ليس حلما بلا جدوى، بل قوة حقيقية يمكنها، بذاتها، أن تخلق أشكال حياة جديدة – أنه بحد ذاته رافعة يمكن أن تحرك العالم". وياله من تطلع يفرض نفسه علينا الآن وفورا.
*نشرت في جريدة الاشتراكي في نوفمبر ٢٠٠٦