كتب عمر الشافعي
مقدمة جديدة لمقال قديم
على الرغم من القمع بالغ الدموية الذي يواجه به نظام الأسد الإجرامي الثورة السورية العظيمة، لا تزال تطل علينا أصوات تدافع عن هذا النظام انطلاقا من دعمه المفترض للمقاومة ووقوفه ضد الهيمنة الإمبريالية على المنطقة. ولو افترضنا جدلا أن النظام السوري الدموي يقف حقا في معسكر مناهضة الإمبريالية، لما أجاز له ذلك على الإطلاق ارتكاب ما يقترفه على مرأى ومسمع من الجميع من جرائم يندى لها الجبين في حق الشعب السوري العظيم وثورته المجيدة. ولكن مقولة عداء هذا النظام للإمبريالية هي أسطورة لا تصمد أمام أي تحليل جاد.
بدأت مسيرة تآمر هذا النظام على المقاومة الفلسطينية حتى قبل وصوله للسلطة! ففي سبتمبر 1970، وإبان مذابح أيلول الأسود التي نفذها النظام الأردني العميل ضد المقاومة الفلسطينية، امتنع حافظ الأسد، وكان آنذاك وزيرا للدفاع، عن تقديم التغطية الجوية للجيش السوري الذي أرسله آنذاك صلاح جديد لدعم الفلسطينيين، ومهد حافظ الأسد بذلك الطريق نحو الانقلاب الذي أوصله للسلطة في نوفمبر من نفس العام.
وإلى جوار تاريخ نظام الأسد، الأب والابن، المظلم كواحد من أشرس النظم البوليسية في العالم، فنحن إن نسينا فلن ننسى أبدا تل الزعتر. في عام 1976 نفذت ميليشيات اليمين الماروني في لبنان مذبحة بشعة ضد سكان هذا المخيم من اللاجئين الفلسطينيين تحت إشراف الجيش السوري الذي كان يحكم الحصار على المخيم. وعلى الرغم من المقاومة البطولية لسكان المخيم، وهو وقتها قلعة المقاومة والطبقة العاملة الفلسطينية، فقد تحول تل الزعتر في نهاية المطاف إلى مرفأ للسيارات. وبعدها بست سنوات، وبعد حافظ الأسد، جاء الدور على أرييل شارون ليشرف على مذبحة مماثلة وفي ظروف مماثلة في صبرا وشاتيلا. وقبل ذلك وبعده، دأب نظام الأسد على محاربة منظمة التحرير الفلسطينية وإفساد منظمات المقاومة بخليط من العصا والجزرة.
لا يمكن لنظام تلطخت يداه بدماء الفلسطينيين والسوريين أن يكون معاديا للإمبريالية. في أفضل الأحوال، ينتمي نظام الأسد إلى معسكر "الممانعة" وليس المقاومة، وهي ممانعة تعود إلى حسابات وتوازنات السياسة الدولية في المنطقة، كما أنها ممانعة تنطبق عليها بحق مقولة "يتمنعن وهن الراغبات".
والمقال المنشور بعد هذه المقدمة نشره كاتب هذه السطور باسم مستعار قبل 15 عاما في الذكرى العشرين لملحمة تل الزعتر في مجلة "الشرارة" اليسارية المصرية. ولعله على الرغم من مرور السنين لم يفقد مغزاه. ولتظل روح تل الزعتر، الذي يمر اليوم بالتمام والكمال 35 عاما على سقوطه، تطارد العصابة الإجرامية التي تتهاوى اليوم غير مأسوف عليها قبضتها على دمشق. وليذهب نظام الأسد إلى مزبلة التاريخ إلى جوار مبارك وبن علي والقذافي وعلي عبد الله صالح والبقية تأتي.
عمر الشافعي
في 12 أغسطس 2011
ربع قرن هو عمر مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين منذ إنشائه في إحدى ضواحي بيروت الشرقية في عام 1950 حتى سقوطه في 12 أغسطس 1976 بعد قرابة أربعة شهور من الحصار التجويعي ثم 52 يومًا من القصف المتواصل على يد ميليشيات اليمين اللبناني المدعومة من جانب الجيش السوري في واحد من أشد فصول الحرب الأهلية اللبنانية مأساوية ودموية. ولأسباب عديدة فإن مذبحة تل الزعتر ينبغي أن تحتل مكانًا بارزًا في "ذاكرة الطبقة".
فهي أولاً كانت نقطة تحول هامة في مسار الحرب الأهلية في لبنان. وهي من جهة ثانية كانت أيضًا خطوة بارزة على طريق "المسيرة السلمية" في المنطقة إذ أسهمت في إزالة تلك العقبة التي وقفت كحجر عثرة في وجه التسوية مع إسرائيل والمتمثلة في استقلالية المقاومة الفلسطينية وحيوية المحيط الاجتماعي الذي يغذيها، وهو بالأساس المخيمات الفلسطينية. وأخيرًا، فإن مذبحة تل الزعتر مفعمة بالدلالات فيما يتعلق بالموقف الفعلي للبرجوازيات العربية من القضية الفلسطينية بعيدًا عن الشعارات الزاعقة والخطب الرنانة.
على أننا في هذا المقال لن نعني فقط بالمذبحة وإنما بقصة المخيم من النشأة حتى السقوط. ذلك أنه يخيل إلى أن هذا المخيم بسنواته الست والعشرين وسكانه الذين بلغوا حوالي 20 ألفًا أغلبهم من الفلسطينيين وقت سقوطه، إنما يمثل تكثيفًا هائلاً لخبرات الكادحين الفلسطينيين في زمننا هذا.
البرجوازية اللبنانية والقضية الفلسطينية
أدى قيام الدولة الصهيونية في 1948 إلى تشريد حوالي مليون فلسطيني، لجأ أغلبهم إلى الضفة الغربية وغزة، وإلى بلدان الجوار العربي – لبنان وسوريا والأردن ومصر. وإذا كان الاستعمار الاستيطاني الصهيوني لم يفرق بين الفلسطينيين حيث شرد العظمى منهم وعامل الأقلية التي بقت في أرضيها كمواطنين من الدرجة الثالثة أو الرابعة، فإن المجتمعات العربية التي لجأ إليها الفلسطينيون قد ميزت فيما بينهم. فبشكل عام، استطاع ملاك الأراضي والبرجوازية والبرجوازية الصغيرة المهنية – وبحظوظ متفاوتة من النجاح – أن يستثمروا صلاتهم وروابطهم بالاقتصاديات العربية، ومواردهم وأموالهم التي استطاعوا نقلها من فلسطين، ومهاراتهم الفنية المطلوبة في العالم العربي في إيجاد موضع قدم بارز لهم في تطور الاقتصاديات العربية وفي الاندماج، بدرجة أو بأخرى، في هذه أو تلك من البرجوازيات العربية. بل إن العقود الثلاثة التي تلت الشتات الفلسطيني قد شهدت ما أصطلح على تسميته "الشتات الثاني"، حيث هاجرت أعدادًا واسعة من الفلسطينيين، غالبيتهم العظمى من البرجوازيين والبرجوازيين الصغار، من دول الجوار العربي إلى الخليج وليبيا حيث استفادوا من (وأسهموا في) الفورة النفطية.
أما بالنسبة للغالبية العظمى من الفلسطينيين من فلاحين سابقين وعمال غير مهرة وأسرهم، فقد اختلفت الوضع تمامًا. لقد افتقد هؤلاء جميعًا – وهم حوالي 80% من اللاجئين الفلسطينيين – الرأسمال والمهارات الفنية، ولم يكن لديهم ملاذ إلا الحياة في مخيمات اللاجئين حيث تولت مسئوليتهم وكالة غوث وتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا)، التي اقتصرت نشاطاتها – كما حددها تفويض الجمعية العامة للأمم المتحدة – "على أهداف إنسانية تتمثل في إغاثة اللاجئين في مجال توفير الغذاء والمأوى والتعليم والخدمات الصحية".
ولم تعط الأونروا أية سلطات سيادية أو بوليسية محلية يكون من شأنها ضمان سلامة وأمن وحقوق اللاجئين، حيث تركت هذه المسئوليات للبلدان المضيفة.
وقد نظر الحكام العرب بارتياب شديد لجيش الفقراء الفلسطينيين هذا – حوالي 800 ألف نسمة – الذي اضطروا لاستقباله في حوالي 80 من المخيمات. لقد كانوا واعين تمامًا بالدور التجذيري للنضالات الوطنية والطبقية الذي يمكن أن تلعبه القضية الفلسطينية في أوساط الجماهير العربية، وفي هذه الأجواء فإن وجود أعدادًا غفيرة من الفلسطينيين المعدمين والمصرين على انتزاع حقوقهم كان بالنسبة للحكام العرب بمثابة قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة. وهكذا راح هؤلاء الحكام يبذلون قصارى جهدهم في محاولة منع هذه القنبلة من الانفجار عن طريق تشديد القمع السياسي على المخيمات واللجوء لمختلف صنوف التمييز الاقتصادي – سواء كان تمييزًا رسميًا أو غير رسمي – ضد سكان المخيمات بهدف عزلهم عن المحيط الجماهيري الأوسع وافتعال التناقضات ومنع التلاحم الطبقي بين العمال الفلسطينيين وعمال الدول المصيفة.
وإذا كانت خبرة سكان المخيمات الفلسطينية في العالم العربي قد تمثلت في ثلاثية التمييز الاقتصادي، البؤس الاجتماعي، القمع السياسي، فإن خصوصية الوضع في لبنان قد شددت من وطأة هذه العناصر الثلاثة. ولا نستطيع أن نفهم ذلك حق الفهم إلا في إطار الدور الخاص للبرجوازية اللبنانية في المنطقة والذي تحدد على أساسه موقف هذه البرجوازية من القضية الفلسطينية. إن الدور التاريخي الذي لعبته البرجوازية اللبنانية – وهي بالأساس برجوازية تجارية ومالية – في منطقتنا هو دور الوسيط بين الداخل العربي والسوق الرأسمالي العالمي. وانطلاقًا من هذا الدور راحت البرجوازية اللبنانية تستشعر الخطر المتمثل في نمو الاقتصاد الصهيوني وانتزاعه دور الوساطة هذا من لبنان. وقد عبر ميشال شيحا، أحد كبار منظري البرجوازية اللبنانية، عن مخاوفها في هذا الصدد حيث قال: "على الصعيد الاقتصادي فإن إسرائيل لا يلين لها عيش دون صناعة ضخمة. فإذا هي صنعت نفسها بما لديها من وسائل تقنية ومالية، اكتسحت جوارها وقضت على كل شيء. وإسرائيل من جهة أخرى، لا تستطيع التنفس بدون تجارة مكثفة... ولسوف تكون التجارة الإسرائيلية، في شرقي المتوسط، بفعل ما توفره لها الدولة من حوافز، تحديًا لامناص منه، لكل المشروعات، لكل المرافئ، لكل التجاريات والوكالات. ولكل المهن التي تقتضي خدمة معينة".
كان التخوف الأساسي لدى البرجوازية اللبنانية من قيام دولة إسرائيل إذن هو خطر مضاربة التجارة الصهيونية – "بفعل ما توفره لها الدولة من حوافز" – على النشاط الاقتصادي اللبناني. ومن هنا نستطيع أن نقول مع فواز طرابلسي، أحد قادة ومنظري منظمة العمل الشيوعي في لبنان، أن "لبنان الرأسمالي التجاري والمصرفي" الذي كان الأكثر تعرضًا للأخطار الاقتصادية للاستعمار الصهيوني، هو الذي جني أكبر الأرباح من "الحل" الذي أنتهي إليه النزاع العربي الإسرائيلي عام 1948: الهدنة والمقاطعة العربية لإسرائيل. فقد أرسى هذا الحل دعامة أساسية في تطور قطاع التجارة والخدمات اللبناني، وفي دور الوساطة الذي تلعبه الرأسمالية اللبنانية بين السوق الإمبريالية والداخل العربي، بعد إزاحة المنافس الرئيسي لهذا الدور عبر المقاطعة العربية لدولة إسرائيل.
جاءت الهدنة والمقاطعة لإسرائيل إذًا للبرجوازية اللبنانية "على الطبطاب". فقيام سلام وتطبيع كامل للعلاقات مع إسرائيل يهدد بنسف دور الوساطة الذي يلعبه الاقتصاد اللبناني بين السوق العالمي والداخل العربي، حيث ينتقل هذا الدور للاقتصاد الصهيوني "الأوفر تجهيزًا والأمتن صلات مع الغرب والأغنى من حيث الإمكانات التقنية ورؤوس الأموال".
ومن جهة أخرى، فإن تحول المقاطعة العربية لإسرائيل وعدم الاعتراف بها إلى حرب يعود بالضرر البالغ على البرجوازية اللبنانية من جراء عدم الاستقرار الذي تولده الحرب وغلق الأسواق فضلاً عن احتمالات التجذير الاجتماعي والسياسي. والخلاصة أن "المبدأ الذهني" للبرجوازية اللبنانية والنظام اللبناني في التعامل مع الصراع العربي الإسرائيلي صار "المحافظة على الأمر الوقع" وتجنب تغيير هذا الأمر الواقع سواء في اتجاه الحرب أو السلام! وعلى هذه الأرضية تشكل تعامل البرجوازية اللبنانية مع المخيمات الفلسطينية.
المخيمات في لبنان
بلغ عدد الفلسطينيين الذين وصلوا لبنان في 1948 – 1949، والذين تم تسجيلهم على قوائم الأونروا، حوالي 128 ألف شخص، عاش أغلبهم في 13 مخيمًا أقيم أغلبهم في ضواحي المدن الكبرى مثل صيدًا وبيروت وطرابلس. وكانت الأوضاع المعيشية في المخيمات بالغة البؤس، في ظل تواضع الخدمات التي تقدمها الأونروا للاجئين والتي لا تلبي الحد الأدنى من احتياجاتهم الإنسانية. ووفقًا لدراسة هامة قام بها الدكتور أمين مجج وأسامة الخالدي للأوضاع الغذائية والصحية في المخيمات فإنه: " بسبب النقص الطويل الأمد في الغذاء اليومي فإن أطفال اللاجئين بدءوا يعانون من نوع فقر الدم (الأنيميا) لم يسبق أن عرف في التغذية البشرية". وتضيف الدراسة: ".. عند النظر في الوجبة الغذائية المستهلكة فعلاً فإن الأرقام المستخلصة من معسكرات اللاجئين تقل القيمة الغذائية المقدمة على المعتقلين في معسكرات الاعتقال (النازية). فبينما كان مجموع السعرات الحرارية التي يستهلكها المعتقل في معتقلات النازية في الدانمرك خلال الحرب العالمية الثانية يبلغ 2120 سعرًا حراريًا، فقد كانت 1900 سعر حراري بالنسبة للاجئي لنبان". ونستطيع أن نقيس على ذلك حجم التردي في سائر الأحوال المعيشية من ظروف سكن غير آدمية إلى افتقار للمياه النقية وشبكات الصرف والطرق المرصوفة فضلاً عن تدني الخدمات الصحية والتعليمية.
وإذا كان النظام اللبناني قد سعى في البداية لتقليص عدد اللاجئين الفلسطينيين في لنبان حرصًا على الحفاظ على "التوازن الطائفي" الهش في البلاد (حيث أن 90% من اللاجئين الفلسطينيين كانوا مسلمين)، فسرعان ما تبين للبرجوازية اللبنانية أن هؤلاء اللاجئين يمثلون "قيمة" كبيرة حيث أنهم مصدر رائع للعمل الرخيص. وفي ظل التمييز القانوني الصريح ضد العمال الأجانب (ينص القانون على ضرورة حصولهم على إجازة (تصريح) عمل وتتشدد السلطات في منح هذه الإجازات وهو ما يعني اضطرار أغلب الفلسطينيين للعمل بشكل غير شرعي في أعمال من الدرجة الثانية بأجور متدنية، كما يحول القانون دون تمتعهم بمزايا نظام الضمان الاجتماعي رغم اقتطاع اشتراكاته من أجورهم) راحت البرجوازية اللبنانية تستغل التدفق الكبير للأيدي العاملة الفلسطينية الرخيصة في خلق جيش عمل احتياطي كبير وتخفيض الأجور للعمال الفلسطينيين واللبنانيين معًا، وإثارة العداء المصطنع بين العمال الفلسطينيين واللبنانيين بهدف شق صفوف الطبقة العاملة.
وعلى الصعيد السياسي والأمني، تم حرمان الفلسطينيين من عضوية النقابات ومن أية أشكال للنشاط السياسي. وتولي "لمكتب الثاني" (المخابرات اللبنانية) بمساعدة أجهزة أمنية أخرى السيطرة على المخيمات حيث شدد السيطرة على حركة الفلسطينيين خارج المخيمات عن طريق إجبارهم على الحصول على تصاريح للدخول أو الخروج أما الزيارات بين المخيمات فكانت تقتضي تصاريح خاصة، مع تسجيل وقت الوصول والمغادرة، فضلاً عن تحديد سبب الزيارة وأسماء المضيفين. بل إن الحركة داخل المخيمات كانت أيضًا مقيدة، حيث لم يسمح للسكان بمغادرة منازلهم بعد التاسعة مساء، وفي بعض المخيمات كانت الأنوار تطفئ في العاشرة مساء.
وإلى جانب حظر كل نشاط سياسي بما في ذلك جمع التبرعات لأي غرض، فإن التنكيل الشديد بسكان المخيمات كان من ممارسات اليومية لضباط المكتب الثاني. ولأتفه الأسباب كان يتم "استجواب" السكان حيث كان الكثيرون يعودون مضروبين أو معذبين، إن لم يموتوا بالفعل تحت التعذيب، ويمكننا القول دون أدنى مبالغة إن المخيمات كانت – حتى 1969 عندما تولت المقاومة الفلسطينية الإشراف عليها – أقرب ما تكون إلى معسكرات الاعتقال.
نشأة وتطور مخيم تل الزعتر 1950 – 1969
اشترك مخيم تل الزعتر مع سائر المخيمات الفلسطينية في لبنان في السمات العامة التي أوردناها من افتقار الشروط الدنيا للمعيشة الإنسانية اللائقة إلى توحش القمع السياسي. على أن السمة الأساسية التي ميزته كانت موقعه تحديدًا. فقد أنشئ المخيم في 1950 في المنطقة التي تسمى ضواحي بيروت الشرقية (وتحديدًا المنطقة الشرقية الشمالية). في ذلك الوقت كان النشاط الزراعي مزدهرًا نسبيًا في تلك المنطقة التي اشتهرت بشكل خاص ببساتين الحمضيات والخضروات. وفي ذلك الوقت اشتعل قسم كبير من سكان المخيم، الذي لم يكن يتجاوز عدد سكانه بضع مئات، في الزراعة. على أن النشاط الزراعي بدأ ينحصر تمامًا في أوائل الستينات على أثر نمو النشاط الصناعي وازدهار حركة البناء في معظم مناطق بيروت الشرقية الشمالية، وخاصة في المنطقة المحيطة بالمخيم (الدكوانة والمكلس) وبحلول عام 1968 صار النشاط الزراعي لا يستوعب سوى 1.5% من مجموع القوى العاملة في عموم المنطقة الشرقية، وسارت المنطقة الشرقية الشمالية من بيروت أهم مناطق البنان الصناعية على الإطلاق حيث ضمت 29% من الرأسمال الصناعي اللبناني.
وكان طبيعيًا أن يقترن بالتطور الكبير للمنطقة المحيطة بالمخيم، تطور ديمرجرافي هام داخل المخيم ذاته، حيث راح عدد السكان يرتفع من 400 نسمة في عام 1950 إلى 778 نسمة في 1951، ثم بدأ النمو السكاني يتباطأ بين 1952 – 1954 ثم راح يتسارع مرة أخرى مع تنامي وتيرة التصنيع حيث وصل عدد السكان إلى حوالي 3 آلاف نسمة في 1955، ثم حوالي 6600 في 1960/1961، ثم حوالي 9900 في 1964/1965، ثم حوالي 10400 في 1966/1967، فحوالي 13100 في 1970/1971، ثم حوالي 14200 في 1971/1972.
ولم يكن الجانب الأكبر من هذا النمو السكاني مرتبطًا بالتزايد الطبيعي في عدد السكان (الفارق بين المواليد والوفيات) وإنما ارتبط أساسًا بالانتقال السريع إلى المخيم من مخيمات المناطق الجنوبية والشمالية والشرقية من لبنان بفعل تحول المناطق الشرقية من بيروت بشكل عام، والمنطقة المحيطة بمخيم تل الزعتر بالذات، إلى مناطق جذب اقتصادي.
ولكن التغير الأكثر أهمية بكثير من مجرد التنامي السريع للسكان في المخيم كان التحول البارز في التركيب الاجتماعي للسكان. فوفقًا لدراسة هامة أجريت على سكان المخيم في عام 1969 / 1970، تبين أن حوالي 87% من أبناء المخيم يأتون من قرى فلسطينية وكانوا يعملون بالزراعة أو تربية الماشية في حين أن 13% فقط أبناء مدن فلسطينية. وبحلول عام 1972 لم يعد يعمل بالزراعة من سكان المخيم سوى حوالي 60 شخصًا يشكلون مع عائلاتهم (إذا اعتبرنا في أقصى الأحوال أن متوسط عدد أفراد العائلة الفلسطينية هو 8 أشخاص) حوالي 480 شخصًا، أي قرابة 3.4% فقط من مجموع سكان المخيم.
وبحكم وقوع المخيم في قلب منطقة صناعية هامة فقد تدفقت عليه أعداد غفيرة من الأيدي العاملة من غير الفلسطينيين الذين شكلوا في أواخر الستينات حوالي 23% من سكان المخيم، أغلبهم من فقراء اللبنانيين والأكراد والمصريين والسوريين. وتعد هذه النسبة أعلى كثيرًا من نسبة غير الفلسطينيين في مخيمات لبنان عمومًا.
أوضاع العمل والعمال بالمخيم
بلغ مجموع القوى العاملة في تل الزعتر في عام 1972 حوالي 3650 شخصا، مثلوا حوالي 25% من سكان المخيم. ووفقًا لدراسة عامة حول البنية الطبقية للقوى العاملة للمخيم، فإن حوالي 285 شخصًا فقط يمثلون 7,8% من مجموع القوى العاملة يمثلون شرائح مختلفة – حرفية ومهنية – من البرجوازية الصغيرة، في حين تمثل البروليتاريا (العاملون في مؤسسات تشغل أكثر من 25 عاملاً) وأشباه البروليتاريا (العاملون في المؤسسات الصناعية والخدمية الصغيرة، التي تشغل أقل من 25 عاملاً وكذلك في الأعمال الشاقة الموسمية وشبه الموسمية) حوالي 86,8% من إجمالي القوى العاملة، ويندرج بقية القوى العاملة – حوالي 200 شخص يمثلون 5,4% من القوى العاملة – في فئات البروليتاريا الرثة (أو الفئات العمالية التي تزاول أعمالاً هامشية وخدمات ثانوية) يتكون أغلبهم من خادمات المنازل.
وفيما يتعلق بالتوزيع القطاعي للطبقة العاملة في المخيم، فإن الدراسة ذاتها تبين أن نسبة العمال العاملين في الصناعة بلغت 60,3% في 1972، مقابل 37,27% للعاملين في الخدمات و2,43% في الزراعة. وتمثل العاملات نسبة 25% من مجموع العمال الذكور والإناث في تل الزعتر. أما في القطاع الصناعي وحده، فإن نسبة العاملات ترتفع قليلاً حيث تبلغ حوالي 32% من مجموع العمال. قلنا أن 86,8% من مجموع القوى العاملة يتمثل في العناصر البرولتيارية وشبة البروليتارية، وهو ما يشير إلى مستوى عال من البلترة في صفوف سكان المخيم. إلا أن تشريح هذه النسبة يبين أن الغالبية داخلها تتكون من العناصر شبه البروليتارية التي تعمل في مؤسسات صغيرة تتصف ظروف العمل داخلها بقدر كبير من عدم الاستقرار. وينطبق ذلك بشكل خاص على العمال الذكور، حيث لا تزيد نسبة العمال الذكور العاملين في مؤسسات كبيرة عن 7% من إجمالي عددهم.
ويعود ضعف تمركز العمال الفلسطينيين بالأساس إلى سياسة التمييز التي أشرنا إليها من قبل خلال الحديث عن أحوال المخيمات بشكل عام. فالقانون اللبناني يشترط حصول العامل الفلسطيني (والأجنبي عموما) على إجازة عمل. وجدير بالذكر أن إجازة العمل هذه لا تخول العامل الفلسطيني حق العمل في كافة المؤسسات أو المهن المختلفة، بل تقتصر على السماح له بالعمل في مؤسسة محددة، وينتهي مفعول ومد الإجازة فور ترك العامل لهذه المؤسسة لأي سبب من الأسباب، ومن الناحية العملية، فإن السلطات اللبنانية كانت تتشدد في تنفيذ هذا القانون فيما يتعلق بعمل الفلسطينيين في المؤسسات الكبيرة، حيث تشترط على صاحب العمل في هذه المؤسسات أن يحصل على إجازة عمل لعماله الفلسطينيين وتمتنع في الوقت ذاته عن منح هذه الإجازات في أغلب الأحوال. أما فيما يتعلق بالمؤسسات الصغيرة والعمل الشاق وغير الموسمي، فإن السلطات كانت تختار في الأغلب أن تغمض أعينها عن عمل الفلسطينيين غير الشرعي، مما يشجع أصحاب هذه المؤسسات على تشغيل الفلسطينيين بأجور متدنية.
والأمر الجدير بالتأمل هنا هو أن إجازة العمل، سواء في حال حصول العامل الفلسطيني عليها أو عدم حصوله عليها، فإنها تستعمل كسلاح ضد للقبول بشروط العمل التي بفرضها عليه صاحب العمل. فإذا حصل العامل على الإجازة، فإنه يشعر بأن سيف الفصل من عمله، الذي يعني تلقائيًا وقف سريان الإجازة، مسلط على رقبته بشكل خطير، حيث أن حصوله على إجازة عمل جديدة يعني مزيدًا من الأعباء المالية على أجره المتدني أصلاً فضلاً عن تعطل وقته وإهدار طاقته في دهاليز البيروقراطية الحكومية المعادية له. وإذا لم يحصل العامل على الإجازة فإن صفة عدم الشرعية (التي تنطبق على الغالبية العظمى من العمال الفلسطينيين في لبنان!) تجبره على القبول بأجور منخفضة وظروف عمل سيئة.
وينبغي أن نذكر أن ما ذكرناه عن ضعف تمركز العمال الفلسطينيين الذكور في تل الزعتر لا ينطبق على العاملات الفلسطينيات. فالمؤسسات الصناعية الكبيرة، بدعم من السلطات، تتغاضي عن شرط حصولهن على إجازة العمل نظرا لتمتعهن بميزة إضافية وهي تدني أجورهن حتى بالمقارنة بزملائهن من العمال الفلسطينيين الذكور الذين يتقاضون في الأغلب أجورا تقل عن أجور العمال اللبنانيين. وهكذا فإن أكثر من 50% من العاملات في الصناعة في تل الزعتر كنّ يعملن في مؤسسات كبيرة، خاصة في مجالي الصناعات الغذائية وصناعة النسيج.
وإلى جانب المشكلات المتعلقة بإجازة العمل بين المنح والمنع، فإن الشكل الثاني للتمييز الفج ضد العمال الفلسطينيين تمثل في عدم شمولهم في الضمان الاجتماعي الذي يشتمل على الفروع الأربعة التالية: ضمان المرض والأمومة، ضمان طوارئ العمل والأمراض المهنية، نظام المعاش، نظام تعويض نهاية الخدمة. وينص قانون الضمان الاجتماعي اللبناني صراحة على أنه "لا يستفيد الأجراء الأجانب الذين يعملون على أراضي الجمهورية اللبنانية من أحكام هذا القانون.. إلا بشرط أن تكون الدولة التي ينتسبون إليها تقر للبنانيين مبدأ المساواة في المعاملة مع رعاياها فيما يتعلق بالضمان الاجتماعي". وحيث أن الفلسطينيين ليست لديهم "دولة ينتسبون إليها" فقط صار شمولهم في الضمان الاجتماعي مستحيلا، رغم اقتطاع اشتراكاته من أجورهم إجباريا، وسواء كانوا حاصلين على إجازة العمل أم لا!!
ويجدر بنا هنا أن نذكر أن أوضاع العمال الفلسطينيين تتشابه في جوانب كثيرة مع أوضاع زملائهم من اللبنانيين. فالعامل الفلسطيني واللبناني معا يعانين من تفشي الفصل التعسفي وعدم منح أغلب المؤسسات لإجازة أسبوعية مدفوعة الأجر، وامتناعها عن صرف أجر عن أيام المرض، فضلا عن أشكال عديدة أخرى من انتهاك أبسط الحقوق الإنسانية. إلا أن التمييز القانوني والفعلي ضد العمال الفلسطينيين، ضمن إطار تردي أحوالي العمال عموما، كان يسهم في شق صفوف الطبقة العاملة وبالتالي تكثيف استغلالها.
وعلى صعيد العمل النقابي، فإن السلطات اللبنانية – كما ذكرنا من قبل – كانت تحظر العمل النقابي تماما حتى 1969. وأدى ذلك لاحتواء العمل النقابي في تل الزعتر في إطار من السرية وعدم الفاعلية. على أن الوضع النقابي لم يتغير كثيرا بعد سيطرة المقاومة على المخيمات منذ 1969 حيث أن الطابع الفوقي والبيروقراطي للاتحاد العام لعمال فلسطين في لبنان حال دون تمكنه من خلق جذور حقيقية بين العمال الفلسطينيين في تل الزعتر الذين لم ينظم سوى أقلية منهم للإتحاد، واتسمت عضويتهم بعدم الفعالية.
انتعاش المقاومة ونسمات الحرية
فضحت هزيمة 1967 عجز الأنظمة العربية الشديد، وراحت هذه الأنظمة تغطي عجزها هذا من خلال دفع حركة المقاومة الفلسطينية لمركز الصراع مع إسرائيل في محاولة لتخفيف حدة الغضب الشعبي. ولكن السماح لحركة المقاومة بالعمل انطلاقا من أراضي الدول العربية كان سلاحا ذا حدين من وجهة نظر هذه الأنظمة. ففي حين أن تشجيع المقاومة كان مفيدا على صعيد تلطيف صورة الأنظمة أمام الجماهير، فإن هذه الإستراتيجية كان من شأنها "توريط" الأنظمة في مواجهة مع إسرائيل لم تكن راغبة فيها ولا مستعدة لها، كما أن حركة المقاومة سرعان ما راحت تلهب المشاعر النضالية لدى الجماهير العربية في اتجاه تجذير النضالات الطبقية الاجتماعية والسياسية في بلدانها. وكان هذا المأزق هو الجذر الأساسي للصدامات العديدة في أواخر الستينات وأوائل السبعينات بين المقاومة الفلسطينية وهذا أو ذلك من الأنظمة العربية، وخاصة النظامين الأردني واللبناني.
أصبحت المقاومة الفلسطينية بؤرة جذب وتجذير للجماهير اللبنانية، والعربية عموما على أثر معركة الكرامة في أوائل مارس 1968 عندما استطاع الفدائيون الفلسطينيون أن يصمدوا في وجه هجوم حرب إسرائيلي متفوق عددا وعتادا على بلدة الكرامة الواقعة على الضفة الشرقية لنهر الأردن. وراح العمل الفدائي يتكاثف في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك انطلاقا من الأراضي العربية المحيطة بإسرائيل، ومنها جنوب لبنان. وفي إبريل 1969 وقعت أحداث جسام أكدت عمق الشعبية التي حظيت بها المقاومة بين الجماهير اللبنانية. ففي منتصف إبريل طارد الجيش اللبناني مجموعة من الفدائيين العائدين من عملية في إسرائيل، وقام الجيش خلال المطاردة بمحاصرة بلدة بنت جبيل التي رفض أهلها تسليم الفدائيين المطلوبين. وبعد ثلاث أيام من القصف المتواصل للبلدة قام الفدائيون بتسليم أنفسهم لإنقاذ بنت جبيل من التدمير الكامل، وتم اعتقالهم في صور.
وعلى الفور اندلعت مظاهرات اجتماعية على امتداد لبنان تطالب بالإفراج عن الفدائيين. ومع تصاعد المظاهرات والإضرابات يوما بعد آخر دعت مجموعة الأحزاب الوطنية والتقدمية التي كان كمال جنبلاط ينسق تحركها لمسيرة احتجاجية كبرى في قلب بيروت يون 23 إبريل. ورغم حظر وزارة الداخلية (التي كان يقودها عادل عسيران المنتمي لواحدة من العائلات الشيعية الأربع الفاحشة الثراء السيطرة على الجنوب اللبناني) للمسيرة فقد تدفقت الآلاف المؤلفة من كل حدب وصوب على قلب بيروت. وما أن بدأت المسيرة السلمية حتى واجهتها السلطات بعنف بالغ. فعندما عجزت خراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع عن فض المسيرة، بدأت قوات الأمن تفتح النار بشكل مباشر وعشوائي على المسيرة مما أسفر عن مذبحة راح ضحيتها ما لا يقل عن 30 قتيلاً و100 جريح ومئات المعتقلين. وكانت المفارقة صارخة بين وحشية الأمن والجيش في مواجهة المتظاهرين والوداعة الشديدة التي أبداها الجيش قبل أربعة شهور فقط عندما لم يحرك ساكنًا إزاء الغارة الإسرائيلية على مطار بيروت، التي تم خلالها تدمير 13 طائرة لبنانية، في 28 ديسمبر 1968.
في أعقاب أحداث إبريل 1969، وقعت عدة صدامات مسلحة كبيرة بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية التي استطاعت في النهاية عبر صمودها البطولي والالتفاف الجماهيري حولها أن تنتزع ليس فقط شرعية وجودها في لبنان (من خلال اتفاق القاهرة الذي تم بوساطة عبد الناصر) بل أن تحرر كذلك المخيمات الفلسطينية من السيطرة القمعية البشعة للمكتب الثاني.
ومن وجهة نظر سكان المخيمات لم تكن حركة المقاومة تعني فقط إمكانية المواجهة المباشرة مع العدو الصهيوني وإنما أيضا تحرير المخيمات سياسيا. كانت القضية الجوهرية هي تحويل المخيمات من معسكرات اعتقال إلى قواعد ثورية. وإلى جانب انضمام أعداد ضخمة من شباب المخيمات لأفواج الفدائيين، راح النشاط السياسي يزدهر بشكل غير مسبوق داخل المخيمات التي وجدت المنظمات والأحزاب اليسارية والقومية الراديكالية فيها أرضا شديدة الخصوبة.
الصراع الطبقي ومقدمات الحرب الأهلية
خلال السنوات الممتدة من مايو 1968 إلى إبريل 1975 شنت إسرائيل أكثر من 6200 هجوما عسكريا على لبنان (بواقع ثلاثة اعتداءات يوميا!) منها حوالي 4000 عملية قصف بالمدفعية والطائرات لقرى وبلدان ومخيمات، وأكثر من 350 غزو مباشر تتراوح الحجم والمدى. ومع ذلك فلم يحدث أن رفع الجيش اللبناني إصبعا في مواجهة هذه الدوامة من الاعتداءات المتواصلة. ذلك أن الجيش كان مشغولا في معركة مقدسة على الجبهة الداخلية ضد إضرابات العمال وتمردات الفلاحين ومظاهرات الطلاب المتواصلة أيضًا خلال الفترة ذاتها.
كانت هناك بالطبع أرضية موضوعية للارتفاع الهائل في مستوى الصراع الطبقي في لبنان منذ أواخر الستينات. فالنصف الثاني من الستينات شهد ذبول ما عرف بالـ"معجزة" الاقتصادية اللبنانية التي تمثلت في تحقيق معدلات نمو سنوية زادت في المتوسط عن 10% خلال النصف الأول من الستينات والتجاوز النسبي للطابع الخدمي للاقتصاد اللبناني من خلال برنامج التصنيع الطموح الذي تبناه الجنرال فؤاد شهاب خلال فترة رئاسته (1958 – 1964). فقد انخفض معدل النمو إلى حوالي 2,5% في النصف الثاني من الستينات، وأدى تقلص الإنتاج وارتفاع الأسعار الفلكي (جزئيا بسبب التضخم الذي كان لبنان يستورده جنبا إلى جنب السلع المشتراة من الغرب في فترة بدأت فيها مظاهر الأزمة تمسك بتلابيب العالم الرأسمالي المتقدم، وجزئيا بسبب النشاط المسعور للشركات الاحتكارية المحلية) إلى المزيد من اعتصار العمال والفلاحين وتعميق الاستقطاب الطبقي في المجتمع اللبناني.
شهدت الحركة العمالية صعودا كيفيا منذ بداية السبعينات. في 1970 حققت الحركة العمالية وحدتها التنظيمية عندما اتحدت تسعة اتحادات نقابية مكونة "المجلس الأعلى للعمل" وعلى الرغم من الطابع النضالي للمجلس الأعلى للعمل (الذي لا يمكن مقارنته على الإطلاق بما لدينا في مصر من اتحاد نقابي فاقع الصفار) فإن السمة الأساسية للحركة العمالية في سنوات السبعينات الأولى كانت هي ذلك التحدي العميق الذي واجهه المجلس الأعلى للعمل من جانب حركة قاعدية مناضلة وعلى قدر كبير من التسيس. انتشرت اللجان العمالية المنتخبة في غالبية المناطق الصناعية. وقد بدأت هذه الحركة في المكلس وهي إحدى أهم الضواحي الصناعية في منطقة بيروت الشرقية، وكان يعمل بها جانب كبير من عمال تل الزعتر. وراحت اللجان العمالية تتفاعل فيما بينها وتنسق حركتها من خلال إصدار جريدة عمالية على المستوى القومي، هي "نضال العمال"، التي جمعت وربطت بين طرح المطالب الاقتصادية والاجتماعية الجذرية والدعوة لإصلاح النقابات العمالية ودمقرطتها.
وحدث في مناسبتين سبتمبر 73 ثم فبراير 74 أن دعا المجلس الأعلى للعمل – تحت ضغط هائل من أسفل – للإضراب العام مطالبا بزيادة الأجور وتقليص الفصل التعسفي. وفي المرتين ألغي المجلس الإضراب قبل ساعات من موعده مقابل إصلاحات حكومية محدودة. إلا أنه عجز تماما في المرة الثانية – فبراير 74 – عن فرض قراره على القواعد العمالية. فقد نفذ جميع عمال المكلس الإضراب تحت قيادة لجانهم المنتخبة. كما التزم أغلب عمال الجنوب اللبناني أيضا بالإضرابات حيث قاد تحركهم "اتحاد نقابات جنوب لنبان". واندلعت مظاهرات احتجاجية هائلة ضد قرار إلغاء الإضراب في طرابلس وصيدا وصور. وهكذا صار واضحا للعيان تماما أن اللجان العمالية صارت قوة لا يستهان بها بحلول عام 1974.
وخلال سنوات أوائل السبعينات أيضا كان الريف اللبناني يغلي. فمن الانتفاضة المسلحة لفلاحي سهل عكار على بعد نحو 150 كيلو مترا شمال بيروت وقرب الحدود السورية في نوفمبر 1970 مرورا بالمظاهرات الهائلة لفلاحي الجنوب ضد شركة الريجي المحتكرة لشراء وتسويق وتصنيع إنتاجهم من التبغ (السلعة الأساسية في الجنوب) في يناير 1973، ووصولاً إلى المؤتمرات الجماهيرية للفلاحين والعمال الزراعيين في سهل البقاع خلال سنوات 73، 74، 75، كان الفلاحون والعمال الزراعيون يعبرون عن مرارة عميقة إزاء الرسملة المتسارعة للريف وما ينتج عنها من طرد بالجملة للفلاحين من أراضيهم وارتفاع للأسعار وتكثيف الاستغلال.
أما على صعيد الحركة الطلابية. فيكفي أن نذكر أن المظاهرات والإضرابات الطلابية – وكذلك مظاهرات وإضرابات المدرسين وأساتذة الجامعات! – كانت جزءا من النسيج شبه اليومي لنشاط المدارس والجماعات طوال النصف الأول من السبعينات. وقد جمعت هذه الحركة بين المطالب السياسية العامة – وخاصة تأييد المقاومة الفلسطينية والدعوة لسياسية دفاعية حقيقية ضد الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة – والمطالب المتعلقة بالإصلاح الجوهري للتعليم سواء على مستوى دمقرطة الإدارة التعليمية أو تعديل المناهج بما يتفق مع احتياجات الطلاب أو زيادة الإنفاق الحكومي على التعليم.
وفي محاولة مستميتة، لإنقاذ الرأسمالية اللبنانية في ظل هذا الغليان، راح نظام سليمان فرنجية (1970 – 1976) المفرط في الرجعية يجرب الإقدام على إصلاحات تافهة. فقد استدعى فرنجية لرئاسة الوزارة السياسي السني التقليدي صائب سلام الذي أعلن عن "ثورة من أعلى لتجنب ثورة من أسفل". وبالفعل شكل سلام وزارة التقنيين الشبان نسبيا المتحمسين لقدر بسيط من الإصلاح، إلا أن إصلاحاتهم باءت بفشل ذريع.
فوزير المالية إلياس سابا اضطر للاستقالة بسبب الحرب التي شنتها شده جمعيات رجال الأعمال بسبب قراره بزيادة الجمارك على عدد من سلع الاستهلاك الترفي المستوردة لتمويل بعض المشروعات الاجتماعية الإصلاحية. أما وزير الصحة إميل بيطار فقد استقال أيضا بضغط من كبار مستوردي الأدوية بسبب مشروعه لتوفير الدواء بأسعار معقولة. كما تعرض ثلاثة من وزراء التعليم على التوالي للاستقالة الاضطرارية أو الإقالة بسبب طرحهم لإصلاحات على نظام التعليم رفضها رئيس الجمهورية.
كان فشل التكنوقراط في إنجاز أشد الإصلاحات تواضعا في ظل غليان اجتماعي وسياسي هائل دليلا على الإفلاس التام للرأسمالية اللبنانية ونظامها السياسي الطائفي المتعفن.
وإزاء هذا الفشل الذريع، ومع استمرار حالة الغليان في المصانع والمزارع والمدارس والجامعات والمخيمات، فضلا عن التوتر الشديد على الحدود مع الدولة الصهيونية، راحت نذر الحرب الأهلية تتبدى، واستعد أقصى اليمين لهذه الحرب بتكثيف التسليح والتدريب العسكري لميليشياته بالتعاون المباشر مع الجيش، ومن خلال إمدادات السلاح من إسرائيل والولايات المتحدة والتدفقات المالية من بلدان الخليج، فضلاً عن التدريب في معسكرات الملك حسين بالأردن.
الحرب الأهلية
عندما قررت نقابات الصيادين في صيدا وصور وطرابلس أن تضرب في فبراير 1975 احتجاجا على توسيع الحكومة لاحتكار شركة بروتين (التي كان أحد أهم ملاكها ومديرها العام كميل شمعون الرئيس السابق الذي فجر حكمه الحرب الأهلية في 1958 وأحد قادة الميليشيات اليمينية الأساسية) لصناعة الصيد، لم تكن تلك النقابات تعلم أن قرارها هذا سيضع لبنان على عتبة حرب أهلية جديدة أشد ضراوة كثيرا من سابقتها. فعلى حين أن إضرابات صور وطرابلس قد مرت بسلام، فقد قمع الجيش ببربريته المعهودة إضراب صيادي صيدا وأسفر القمع، من بين ما أسفر عنه، عن استشهاد القائد الشعبي للمدينة معروف سعد متأثرا بإصابته بطلقات رصاص وجهها لمظاهرة تأييد للصيادين.
وإذا كان قمع الصيادين ومقتل معروف سعد قد رفع درجة الغليان السياسي في لبنان، فإن المذبحة التي نفذتها ميليشيا "الكتائب" اليمينية المتطرفة ضد أتوبيس يجمل عائلات فلسطينية ولبنانية كانت في طريق عودتها إلى مخيم تل الزعتر بعد حضور اجتماع شعبي في مخيم صبرا في 13 إبريل، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من ثلاثين شخصا، كانت إشارة البدء للحرب الأهلية.
ليس هذا هو المجال بالطبع لتحليل وافي للحرب الأهلية اللبنانية من حيث أسبابها وطبيعتها ومساراتها. ولكن يمكن القول على وجه الإجمالي أن رحى هذه الحرب قد دارت حول محاور ثلاثة، كانت هناك أولاً "المسألة الاجتماعية". فاليمين يسعى لإبقاء الوضع على ما هو عليه، في حين يناضل اليسار من أجل تغيير اجتماعي تتراوح حدته باختلاف فصائل هذا اليسار بين الثورة الاجتماعية من جانب والإصلاحات التي ترفع مستوى معيشة جماهير العمال والفلاحين وتعيد توزيع الدخل لصالحهم بعض الشيء من جانب آخر. ثم كانت هناك "المسألة الوطنية". اليمين يطالب باستمرار السياسة "الحيادية" للبنان إزاء الصراع العربي الإسرائيلي ورحيل المقاومة الفلسطينية من الأراضي اللبنانية، في حين يطالب اليسار بسياسة معادية للإمبريالية تحصن الجنوب أما الهجمات الإسرائيلية وتدعم المقاومة الفلسطينية. أما ثالث المحاور وربما أكثرها بروزا فتمثل في "المسألة الطائفية". فاليمين يستهدف الحفاظ على جوهر النظام الطائفي بلا تعديل، في حين يناضل اليسار للقضاء على الطائفية واستبدالها بنظام سياسي علماني ديمقراطي. وانطلاقا من مركزية هذا المحور الثالث فإن كمال جنبلاط – القائد والأب الروحي لمعسكر "اليسار" بالمعنى الواسع – قد وصف اندلاع الحرب الأهلية في 1975 قائلاً: "هذه هي 1789 الخاصة بنا" في إشارة إلى الثورة الفرنسية التي قضت على الامتيازات الخاصة للطوائف الدينية وحررت الإنسان الفرد من سطوة هذه الطوائف وأعلنت المساواة السياسية الكاملة بين جميع المواطنين.
ومن المهم أن نشير هنا سريعا للطابع المركب للنظام الطائفي. فمن جهة كان للطائفية السياسية في لبنان طابع طبقي واضح، حيث حققت توزيعا محسوبا بدقة للامتيازات والمناصب العليا بين الشرائح العليا للطوائف المختلفة، أي بين البرجوازية بمختلف انتماءاتها الطائفية. وبكلمات عالم سياسة فرنسي تخصص في دراسة المجتمع اللبناني: "يعزز النظام الطائفي سيطرة الطبقات المتميزة لأنه ينزع نحو توحيد الطبقات الحاكمة وتفتيت المستضعفين". ومن جهة أخرى، وفي إطار هذا الطابع الطبقي لعام، فإن النظام الطائفي يمنح امتيازات خاصة ووضع مهيمن للمارونيين بالمقارنة بالطوائف الأخرى.
على الرغم من أن النظام الطائفي كان الشكل المميز لهيمنة البرجوازية على المجتمع اللبناني، فإن خصوصية الامتيازات المارونية جعلت من البرجوازية المارونية القطاع الأكثر انسجاما مع هذا النظام والأكثر شراسة في مواجهة أية محاولة لإدخال تعديلات عليه. وقد استهدف المشروع السياسي للبرجوازية المارونية – معبرا عن نفسه في أحزاب وميليشيات اليمين الماروني وأبرزها "الكتائب" – حشد المارونيين، والمسيحيين عموما، من كافة الطبقات وراء الإبقاء على النظام الطائفي، وتصوير أي هجوم على هذا النظام كهجوم على المسيحيين أنفسهم. جوهر مشروع اليمين الماروني إذن كان الدفاع عن مصالح البرجوازية اللبنانية عموما في استمرار الطائفية والحفاظ على هيمنة البرجوازية المارونية بالذات داخل البرجوازية اللبنانية. واتساقا مع الطابع البرجوازي لهذا المشروع راح اليمين الماروني يصور الحرب الأهلية ذاتها على أنها حرب طائفية.
وفي مواجهة اليمين الماروني، تمثل معسكر اليسار في الحرب الأهلية في تحالف "الحركة الوطنية اللبنانية" والمقاومة الفلسطينية. وكانت "الحركة الوطنية" عبارة عن جبهة واسعة من الأحزاب والقوى الوطنية واليسارية أضفت عليها قيادة كمال جنبلاط قدرا من الوحدة والتماسك. وتمثلت أهم قوى اليسار داخل الحركة الوطنية في الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي. تبني الحزب الشيوعي نظرية المراحل الستالينية في أنقى صورها وفصل بوضوح بين "الثورة الوطنية الديمقراطية" الممكنة التحقيق والواقعية، و"الثورة الاشتراكية" التي تمثل الأفق التاريخي للنضال ولكنها غير مطروحة على جدول الأعمال الآني. أما "منظمة العمال الشيوعي" الأكثر راديكالية فقد ربطت (وإن يكن بشكل يشوبه الغموض) بين القضاء على الطائفية وتحقيق المهام الوطنية من جانب والثورة الاجتماعية من جانب آخر، حيث أكدت، على لسان فواز طرابلسي، أن "الإلغاء الكامل للامتيازات الطائفية بما هي أيضا امتيازات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية، لا يتم إلا بقيام سلطة وطنية ديمقراطية تفتتح التحول الاشتراكي الذي يقضي وحدة على كافة أشكال التمييز الطبقي والطائفي والعنصري".
التدخل السوري ومعركة تل الزعتر
بعد حوالي سنة من الاقتتال العنيف، وبالتحديد في مارس 1976، كان تحالف الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية قد أحرز انتصارا عسكريا حاسما، إذ صار يسيطر على حوالي 82% من أراضي لبنان مقابل 18% لليمين الماروني الذي صار في حال لا يحسد عليه. وفي هذه الأثناء اكتسب الدور السوري أهمية استثنائية.
فحتى مطلع 1976 كان اليمين الماروني يحظى بمساندة إسرائيل وأمريكا والأردن ودول الخليج ومصر. وكان "تقسيم العمل" بين هذه الأطراف يسير بدقة تستحق الإعجاب! فإسرائيل توفر إمدادات هائلة من السلاح فضلاًَ عن قيام ضباطها منذ أوائل 1976 بتدريب الميليشيات اليمينية عسكريا وإمدادها بالخطط القتالية. ودول الخليج، وعلى رأسها السعودية، ترسل فيضا متدفقا من الأموال دعما للمعسكر "المسيحي" تعبيرا عن تسامح إسلامي سامي!! والأردن يقدم معسكرات تدريب للقوات اليمينية. أما دور مصر الساداتية فتمثل أساسا في الدعم السياسي والأيديولوجية لليمين من خلال حملة تشويه مكثفة لطبيعة الصراع الدائر في لبنان. وقد بلغت هذه الحملة من الكثافة لدرجة أن نائب الرئيس المصري وقتها حسني مبارك (الذي لم يكن مشهورا على الإطلاق بالحنكة السياسية أو القدرة على التحليل السياسي، فضلا عن جهله الشديد بقضايا السياسة الخارجية) اضطر للإسهام فيها حيث صرح في أحد أيام نوفمبر 1975 للأهرام "أن الشيوعيين هم الذين يفجرون الأحداث في لبنان، وأنه ليست هناك حركة وطنية إنما مجرد تغطية لأهداف الشيوعية الدولية"، فيا له من سياسي ثاقب النظر حقا!
أما بالنسبة للنظام السوري، فإن موقفه من الحرب طوال عام 1975 كان موقف "الحكم النزيه" – الحريص على الظهور بمظهر الحياد والحفاظ على توازن معين بين القوى المتصارعة في لبنان يحول دون توريط سوريا في صدام مع إسرائيل (حال انتصار اليسار والفلسطينيين) كما يحول دون تكريس الهيمنة الإسرائيلية على لبنان (في حالة انتصار اليمين الماروني). ومع الانتصارات الحاسمة لمعسكر اليسار في مطلع 1976 حدث تحول هام في السياسة السورية التي اندفعت في التحالف السافر مع اليمين، سياسيا وعسكريا.
كانت دوافع سياسة الأسد الجديدة متعددة. فهو أولاً يريد أن يقضي على أية عراقيل تحد من إستراتيجية القائمة على استعادة الجولان المحتلة بواسطة تسوية سلمية مع إسرائيل، وأهم هذه العراقيل هي وجود حركة مقاومة فلسطينية "متطرفة" ومستقلة عن الهيمنة السورية ومرشحة لأن تزداد "تطرفا" واستقلالا في حالة انتصار تحالفها مع اليسار ضد اليمين الماروني. وهو من جهة ثانية يريد أن يقنع اليمني الماروني بقبول "الحماية" السورية وليس الإسرائيلية – الأمريكية، وهو هدف حاول الأسد تحقيقه عن طريق المبادرة التي قدمها في فبراير لإنهاء القتال والتي تنص في الجوهر على الحفاظ على البنية الاجتماعية والسياسية للبنان ما قبل الحرب مع خلق سلطة مركزية أكثر تماسكا. وأخيرا فقد كان الأسد واعيا تماما بأن انتصار المشروع الديمقراطي الجماهيري في لبنان، في ظل احتدام ونضج الصراعات الطبقية في المدن والريف، ستكون له حتما آثار "وخيمة" في محيط أوسع من لبنان وأن رياح التغيير الثوري آنذاك ستكون مرشحة لتقويض نظامه الاستبدادي في سوريا.
هكذا ألقت سوريا بثقلها سياسيا وعسكريا في معسكر اليمين الماروني لتنضم بذلك للقافلة الأمريكية الإسرائيلية المصرية الأردنية الخليجية، لكي يظهر على المسرح اللبناني مشهد عظيم للتضامن الشرق أوسطى قبل حوالي عشرين عاما من البزوغ القوى للإيديولوجية الشرق أوسطية على يد منظريها المعاصرين من أمثال شيمون بيريز ولطفي الخولي!
خلال شهر يونيو 1976 أرسل الأسد حوالي 30 ألف جندي سوري على دفعات إلى لبنان، وإزاء فشل القوات السورية الذريع في احتلال المدن الرئيسية وإجبار المعسكر اليساري – الفلسطيني على الاستسلام أصبحت الإستراتيجية السورية هي السيطرة على المواقع الإستراتيجية، وعزل تمركزات القوات الفلسطينية والتقدمية عن بعضها البعض، ورفع الضغط عن مواقع الميليشيات اليمينية، ومنع وصول إمدادات مدنية أو عسكرية للقوات الفلسطينية والتقدمية. باختصار، حرب تجويع لصالح قوى الثورة المضادة. وفي ظل الوضع الجديد اكتسب مخيم تل الزعتر أهمية قصوى.
فمع توالي هزائمه العسكرية والسياسية حتى قدوم السوريين، لم يعد مشروع اليمين الماروني (الذي كان يظن أنه سينتصر لا محالة في الحرب الأهلية التي فجرها بمذبحة 13 إبريل 1975) هو "إبقاء الأوضاع على ما هي عليه" في لبنان وإنما تقسيمه طائفيا بحيث يتسمم جوه ويسود فيه المنطق الطائفي الرجعي. هكذا صار المطلوب هو "تطهير" المناطق التي يسيطر عليها اليمين، وأهمها بيروت الشرقية من كل من هو غير ماروني، عن طريق مجازر بربرية لأحياء الفقر المدقع التي تسكنها أغلبية شيعية مثل الكرنتينا والمسلخ والنبعة والمخيمات الفلسطينية في بيروت الشرقية وأهمها على الإطلاق تل الزعتر الذي وصل سكانه في 1976 لحوالي 30 ألفًا نتيجة لتدفق أعداد هائلة من فقراء الفلسطينيين والفقراء عموما عليه خلال السنوات القليلة السابقة.
في 4 يناير 1976، اعترضت ميليشيا الكتائب قافلة الطعام في طريقها لتل الزعتر ليبدأ بذلك حصار المخيم، ذلك الحصار الذي صار شديد الإحكام منذ النصف الثاني لفبراير. ورغم خضوع تل الزعتر لحصار تجويعي بالغ القسوة منذ أواخر فبراير حتى أواخر يونيو، فقد حال عامل عسكري هام دون قصف المخيم طوال هذه الشهور الأربعة. ففي محاولة لإنقاذ تل الزعتر قامت قوات الحركة الوطنية بحصار بلدة زحلة المارونية وأعلنت الحركة اتخاذ سكان زحلة رهينة لمنع ضرب تل الزعتر. وبالطبع غير التدخل السوري هذه المعادلة، حيث رفع السوريون الحصار حول زحلة وقاموا أيضا بتشتيت جميع القوات الفلسطينية والتقدمية القادرة على الوصول لمنطقة المخيم وبذلك فتحوا الباب على مصراعيه أمام الهجوم اليميني على تل الزعتر.
بدأ قصف تل الزعتر في 21 يونيو بواسطة ميليشيا النمور بزعامة كميل شمعون التي سرعان ما انضمت إليها الكتائب، وفي ظل إشراف القوات السورية. وعلى الرغم من أن سكان المخيم كانوا قد عاشوا في ظل حصار شامل لمدة أربعة شهور اعتمد بقاؤهم خلالها على تناول كميات غاية في الضآلة من المياه والعدس، ورغم ضراوة القصف الذي اشتركت فيه أحيانا المدفعية السورية مباشرة، فقد صمد أهالي تل الزعتر صمودا فاق كل تصور. كان مخيم جسر الباشا القريب من تل الزعتر والذي كان يضم حوالي ألفين من الفلسطينيين أغلبهم من المسيحيين قد سقط في 30 يونيو، وتوقعت أكثر تقديرات اليمينيين تشاؤما أن يسقط تل الزعتر خلال عشرة أيام. إلا أن أهالي المخيم استطاعوا الصمود في ظروف يصعب وصفها بالكلمات حتى 12 أغسطس.
وعلى مدى 52 يوما قصف المدفعية، كان عدد القتلى يوميا في المتوسط 25 شخصا إلى جانب حوالي مائة جريح. وخلال الشهر الأول للقصف، منعت الميليشيات اليمينية والقوات السورية دخول الصليب الأحمر الدولي إلى المخيم كما حالت دون وصول أية إسعافات حتى أن أي إصابة بسيطة كانت تتحول إلى غرغرينا. وعندما تم السماح أخيرا في 23 يوليو لبعض مسؤولي الصليب الأحمر بدخول المخيم، فإنهم وجدوا حوالي 700 مصاب في احتياج ماس للإجلاء بينهم أطفال كثيرون كانوا يموتون بأمراض مثل الإسهال والجفاف.
وعندما سقط المخيم أخيرا في 12 أغسطس وتمكنت الميليشيات اليمينية من دخوله كان عدد القتلى من جراء القصف اليومي على مدى 52 يوما قد تجاوز الألف. إلا أن دخول القوات اليمينية للمخيم كان بداية لحمام دم جديد أشد قسوة من كل ما سبق. فقد راحت الميليشيات تنظم كمائن جبانة للسكان العزل حيث تدعوهم بالميكروفونات للخروج من المخابئ بدعوى إجلائهم ثم تطلق النار عليهم. وراحت المليشيات المختلفة تتنافس على ذبح أكبر عدد من الفلسطينيين بطرق لا تخطر ببال. تعرضت عائلات بأكملها للذبح. ورفضت الميليشيات بإصرار السماح بإجلاء أي رجل إلى بيروت الغربية، وكان تعريفهم للرجل هو "الذكر الذي يتراوح عمره بين عشرة أعوام وخمسين عاما! وتعرضت أعداد غفيرة من النساء للاغتصاب قبل ذبحهن، بينهن فتيات كثيرات يقل عمرهن عن عشرة سنوات. بل إن الخسة بلغت بالقوات التي اقتحمت المخيم، تحت أشراف الضباط السوريين، أنهم قاموا بصف 60 من ممرضي المخيم في صفين وأطلقوا عليهم الرصاص في واحدة من أسوأ المذابح.
هل كانت الهزيمة حتمية؟
كان سقوط الزعتر نقطة تحول بارزة لا في مسار الحرب الأهلية اللبنانية وحدها، حيث كرس وصول قوات الردع العربية إلى لبنان انتصار اليمين من خلال تسوية نوفمبر 1976 (التي لم تحقق السلام بالطبع وإنما كانت البداية لمرحلة جديدة مختلفة نوعيا من الاقتتال الطائفي في أغلبه هذه المرة)، بل في مسيرة النظم العربية نحو "سلام" مع الإمبريالية على حساب القضية الفلسطينية، وهي مسيرة كان يصعب أن تتقدم بسلاسة في ظل وجود قوي ومستقل لمقاومة فلسطينية تستمد الحيوية من مخيمات بنضالية تل الزعتر.
لقد تعرض أهالي تل الزعتر لمذبحة جماعية بشعة، وتحول مخيمهم الذي كان قد شهد تحولات اجتماعية وسياسية عارمة (البلترة، الاعتصار الطبقي، المقاومة الوطنية والطبقية... الخ) إلى جراج كبير للسيارات. كما أنهزم تحالف الحركة الوطنية اللبنانية – المقاومة الفلسطينية أمام ميليشيات اليمين الفاشي المدعومة من كافة دول المنطقة في حرب أهلية لم تكن على الإطلاق شأنا لبنانيا محضا وإنما كانت تكثيفا هائلا لمعركة طبقية كبرى على مستوى منطقتنا. فهل كانت هذه الهزيمة حتمية؟
ليست الإجابة على هذا السؤال سهلة بالطبع. وبداية نشير إلى أن اليسار بالمعنى الواسع متمثلا في الحركة الوطنية، وكذلك اليسار بالمعنى الضيق متمثلا في الأحزاب والمنظمات الشيوعية قد وقع في أخطاء هائلة خلال مسيرة الحرب.
فكما أسلفنا شبهت الحركة الوطنية أحداث 1975 في لبنان بالثورة الفرنسية. وبالطبع فإن المأزق الحقيقي لهذا التشبيه هو أن البرجوازية اللبنانية في 1975 – على عكس مثيلاتها الفرنسية في 1789 – كانت طبقة ممعنة في الرجعية، وبالتالي لم يكن من الممكن تحقيق أهداف 1789 إلا في سياق ثورة من طراز أكتوبر 1917 الروسي. وهذا بالطبع هو ما لم تدركه الحركة الوطنية وكان ذلك بمثابة خلل أساسي في إستراتيجيتها السياسية، خاصة في فترة بلغ فيها احتدام الصراع الطبقي مستوى غير مسبوق في لبنان.
أما اليسار بالمعنى الضيق فإنه للأسف كان قد أفلس سياسيا مع اندلاع الحرب الأهلية. وعلى سبيل المثال ففي حين أن منظمة العمل الشيوعي كانت في سنوات السبعينات الأولى تؤكد على الارتباط بين المهام الديمقراطية والوطنية للثورة ومهامها الاشتراكية، فإنها قد تراجعت بشكل مذهل في خضم المعركة. فمع اشتعال الحرب الأهلية راحت منظمة العمل تقترب أكثر فأكثر من نظرية المراحل الستالينية. وصارت تؤكد أن البديلين المتصارعين في لبنان هما "ديكتاتورية فاشية" من جانب أو "خلاص وطني" من جاني آخر، وهو خلاص وطني تم النظر إليه من منظور يجرده من أيه أبعاد طبقية ثورية. الخلاص الوطني الذي يتلخص في القضاء على الطائفية مع استمرار الرأسمالية اللبنانية، وذلك تحت دعوى "الأخذ بالاعتبار المصلحة المشتركة بين الطبقات التي يمثلها اليسار وبين الفئات والقوى الأخرى".
إن أخطاء إستراتيجية من هذا النوع قد قوضت فرصة اليسار في تعبئة الطبقة العاملة والجماهير المارونية في مواجهة مشروع اليمين الماروني. فهذه التعبئة ما كان لها أن تنجح سوى على أرضية المصالح الطبقية لهذه الجماهير وليس مجرد "حسها الديمقراطي العام" في ظروف يدفع فيها الاستقطاب العنيف هذه الجماهير نحو أقصى اليمين أو أقصى اليسار.
وقع اليسار إذن في أخطاء قاتلة. ولكن هذا ليس معناه أن تجنب هذه الأخطاء كان كفيلا وحده بتحقيق انتصار ثوري. فالحرب الأهلية اللبنانية كان كما أسلفنا جزءا لا يتجزأ من معركة طبقية على مستوى المنطقة بأسرها. والذي لاشك فيه هو أن عدم احتدام الصراعات الطبقية في البلدان المحيطة بلبنان، والذي سمح لبرجوازيات هذه البلدان جميعا ومعها الإمبريالية الأمريكية أن تتدخل لإخماد الحريق الثوري في لبنان، كان من شأنه أن يضع قيودًا صارمة على الإمكانيات الثورية في لبنان حتى لو كان اليسار اللبناني قد تجنب ما وقع فيه من أخطاء.
كانت هزيمة الثورة في لبنان إذن حتمية فقد داخل سياق اجتماعي سياسي بعينه: ميل توازن القوى الطبقية في المنطقة لصالح البرجوازيات. وبالطبع ففي ظل هزيمة الثورة كان سقوط تل الزعتر حتميا. فرغم البطولة الملحمية لأهالي المخيم من العمال الفلسطينيين وغيرهم، فقد كان العدو الطبقي، الأقوى بما لا يقاس مصرا على القضاء على وجود تل الزعتر ذاته بوصفه قلعة للصمود الفلسطيني والنضال الطبقي العظيم لعمال وكادحي لبنان من مختلف الجنسيات.
وهنا يظهر مغزى استخدامنا لتعبير "تراجيديا" تل الزعتر في عنوان هذا المقال. فقد كانت السمة البارزة للأعمال التراجيدية في المسرح اليوناني الكلاسيكي هي تحدي البطل بشجاعة هائلة لقوة يتحتم عليه في النهاية أن ينهزم أمامها، ألا وهي قوة القدر الذي لا يعرف الرحمة. ورغم معرفته بحتمية الهزيمة، فقد كان لدى البطل في هذه الأعمال من الروح النضالية والعظمة الإنسانية ما يدفعه للصمود حتى النهاية. ألا ينطبق ذلك على أبطال تل الزعتر؟
ويبقى أن من حسن الطالع أن البطل في زمننا المعاصر – الطبقة العاملة والكادحين – لا يواجه قوى ميتافيزيقية يستحيل قهرها، وإنما قوى اجتماعية وسياسية متعفنة تمتلك البشرية الإمكانية الموضوعية لسحقها ودفنها إلى الأبد.
كلمة أخيرة
انتقل هذا المقال من العام إلى الخاص مرتين. فمن موقف البرجوازيات العربية، والبرجوازية اللبنانية خصوصا من القضية الفلسطينية إلى أحوال المخيمات في لبنان وصولا إلى أوضاع تل الزعتر وتبلور بروليتاريا صناعية داخلة، ثم من اشتعال المقاومة الفلسطينية واحتدام الصراع الطبقي في لبنان وصولا للحرب الأهلية إلى التدخل السوري وصولا لمذبحة تل الزعتر. والسبب في هذا البناء للمقال هو أن أحداث تلك الزعتر – من النشأة إلى التصفية – لا يمكن فهمها من منظور ماركسي خارج السياق الاجتماعي والسياسي الذي جرت داخله.
إن ملحمة تل الزعتر مليئة بالدروس التي ينبغي على الثوريين وضعها نصب أعينهم. إنها تؤكد لنا قبل كل شيء وبشكل ملموس الأساس الاجتماعي لتهادن البرجوازيات العربية مع إسرائيل. فهذه البرجوازيات تخشى الجماهير أكثر بآلاف المرات من كراهيتها للإمبريالية. كما أن هذه البرجوازيات قد بلغت من الانحطاط والعفونة حدًا لا يستحق معه مزيدا من البقاء. إن بقاءها يعني الشقاء الذي يفوق التصور لمئات الملايين من البشر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق