وائل جمال
لا يمر اجتماع حزبي أو ندوة أو لقاء لمناقشة مستقبل مصر دون أن تنطرح هذه الأسئلة: كيف نصل بهذه الفكرة للناس؟ كيف يفهمنا الفلاحون في القرى والمحافظات؟ كيف نوعِّى الجماهير؟ تنطوي هذه الأسئلة على افتراضين أساسيين: أولهما أن السياسيين أو الخبراء أو حتى الجمهور، غالبا هو قاهري من الطبقة الوسطى المتعلمة، يمتلك وعيا أو علما أو أفكارا لا يمتلكها عموم الناس، وثانيهما أن هذا "الوعي" وكأنه مجرد من المصالح. كأنه نظرية علمية في الفيزياء أو ما شابه، وبالتالي فهو غير مردود عليه بأفكار أخرى قد تكون "أصح" من وجهة نظر مصالح أخرى. إنما المشكلة هي أن تستوعبه الجموع "غير المؤهلة لذلك"، أو المعرضة لتأثيرات "جاهلة وظلامية وغيبية ومتخلفة".
والحقيقة أن الافتراضين خاطئان، خاصة في أعقاب ثورة قامت بها هذه الجماهير، دون قيادة من أي من أولئك الذين يمتلكون "الوعي".
ولقد كان "قصور الوعي عند الناس"، و"تدهور التعليم"، و"سيادة الغيبيات"، إلى آخره مبررات أساسية وحججا مركزية في نظريات أولئك الذين أكدوا لنا بيقين راسخ أن ثورة تونس "لا يمكن أن تتكرر في مصر". وهاهي الجماهير تثبت بانتفاضتها البطولية بدءا من 25 يناير وحتى الآن تهافت هذه الأفكار.
إن تشكل "الوعي الاجتماعي والسياسي"، أو مجموعة الأفكار التي تنظم علاقة الناس بالدولة والمجتمع يختلف في حالة الفرد "المثقف السياسي" عنه في حالة الجموع. يحاول من يفترضون سمو أفكارهم على أفكار الناس أن يفرضوا الطريقة الأنسب من وجهة نظرهم في تنظيم الناس: على الانسان أن يقارن النظريات السياسية والبرامج المختلفة وأن يقتنع بأحدها. وقد تصلح هذه الطريقة بين المثقفين، لكنها ليست المحرك الأساسي لتجربة المعرفة عند الجموع. بل إنها ليست الآلية الأساسية لدى المثقفين والمتعلمين الأفراد، حتى وإن ادعَوا ذلك.
يقدم ميكافيللي في كتابه الأمير الحديث نصيحة للحاكم، سارية من القرن السادس عشر، هي أن عليه أن يصبح نصف إنسان ونصف حيوان، نصف ثعلب ونصف أسد. نصف حيوان لأن عليه أن يستخدم القوة لقمع المحكومين لكي يستقر حكمه، ونصف إنسان لأن عليه أن يخدع الناس بالأفكار. ولا تشذ الرأسمالية الحديثة ولا نظم الحكم المعاصرة عن هذه القاعدة، بل زادت أهمية ومحورية السياسة "الثعلبية" في عالم الديمقراطية الرأسمالية المعاصر.
في المجتمعات المستقرة تسيطر أفكار من يحكمون على الأغلبية الكاسحة: ليس في مصلحتك تغيير النظام. هناك مشاكل لكن النظام يعمل على معالجتها. هناك بطالة وأزمة اقتصادية لكن السبب فيها ليس النظام الاقتصادي الذي يخلقها، وإنما العمال القادمون من الخارج. الأقباط أغنياء ويكادوا يسيطرون على البلد بينما المسلمون فقراء. على المرأة أن تبقى في المنزل لكي تفسح المجال لعمل الرجل، "لأن مكان المرأة البيت أصلا". تحرير السوق ومناصرة رجال الأعمال تخلق ثروات طائلة وفقر مدقع لكن القطاع الخاص وحده القادر على إحداث التنمية..الخ.
وفي ذلك لا يمكن استثناء النخب المتعلمة. فهي لا تشكل وعيها ومعرفتها بمعزل عن أفكار نخبة الحكم المسيطرة عبر الاعلام والتعليم والأحزاب والجامع وغيرها. بل إنها هي التي تسهر في أغلب الأحوال على الدفاع عن هذه الأفكار والتصورات المنحازة ضد الناس في الصحافة والمدارس وغيرها، وتتقاضى أجرا على ذلك. وإذا أضفنا عنصر المصلحة الاجتماعية في استقرار النظام للحفاظ على هذه الأدوار واستتباعاتها بالنسبة لمن يملكون "الوعي والتعليم"، نفهم لماذا كان من أيدوا ثورة يناير على طول الخط منهم أقلية ضئيلة، وتسقط نظرية المثقف المجرد من المصالح، الذي يقارن بين النظريات والبرامج بمعزل عن تاريخ أسرته وخلفيات زملائه في العمل، ومصالحه الاجتماعية. وتسقط مع هذه النظرية العملية التي يقوم بعض هؤلاء الآن بمقتضاها، بحسن نية أو بغيرها، بإعادة تقديم أنفسهم كمعلمين للجموع عوضا عن تلامذة لهم، كمن يمتلكون الوعي والمعرفة والخبرة في مقابل الجماهير الجاهلة "التي تسيطر عليها الغيبية والطائفية والمصالح المباشرة والجهل".
الحقيقة أن من يتصور أنه سيبني حزبا واسعا أو يقنع جمهورا حاشدا ببرنامج سياسي على هذا الأساس واهم وسيصطدم بالحائط فورا. إن أهم سمة لا شك فيها للثورة هي التدخل المباشر للجماهير في الأحداث التاريخية. في الأوقات العادية، تضع الدولة، سواء ملكية أم ديمقراطية، نفسها فوق الأمة. ويصنع التاريخ بواسطة الأخصائيين في هذا الفرع من النشاط أو ذاك – الملوك، الوزراء، الموظفون البيروقراط، البرلمانيون والصحفيون. لكن في هذه اللحظات الحاسمة عندما يصير النظام القديم غير محتمل بالنسبة للجماهير، فإنهم يحطمون الحواجز التي تستبعدهم من الساحة السياسية ويجرفون جانبا ممثليهم السياسيين التقليديين ويخلقون بتدخلهم هم الأرضية الأولية لنظام جديد. زهكذا تتحول التعديلات الدستورية بما فيها من تعبيرات قانونية جافة إلى محل للنقاش في المدرسة والمصنع وعلى القهوة، في المكتب وفي الأفراح، وفي كل تجمع للناس.
لا يتشكل وعي الناس في الثورة بطريقة نظرية ولا يكذب، كوعي النخب، فيما يتعلق بالمصالح التي يدافع عنها ويمثلها. ففي السنوات الأخيرة، حين كان المجتمع الرسمي -هذه البنية الفوقية المؤلفة من عدة طوابق، والتي تتألف منها النخب الحاكمة، بشرائحها المميزة، ومجموعاتها، وأحزابها، وشراذمها- يعيش يومًا بيوم، وهو يتغذى بأفكار مهترئة، ويصم أذنيه عن مطالب الثورة الحتمية، تفتنه الأشباح، ولا يتوقع شيئًا، كان ملايين الموظفين والعمال يضربون ويعتصمون دفاعا عن لقمة عيشهم ويتعلمون السياسة الحقة بتجربتهم الذاتية. في معركة المواجهة مع اتحاد العمال الأصفر، والاعلام القومي المأجور، ومباحث أمن الدولة والأمن المركزي، وأعضاء مجلس الشعب الفاسدين، تعلمت الجماهير عن ضرورة الثورة. المعرفة بالمصلحة المباشرة والتجربة الذاتية في الدفاع عنها هي خير معلم للنظريات السياسية في إدارة المجتمع. هكذا تغير الجموع الثائرة أفكارها وليس في حلقات النقاش أو من خلال وصاية خبراء النخب. وهكذا كان ممكنا بعد شهر واحد من تفجر طائفي بحجم ما سببه تفجير كنيسة القديسين أن نرى التعاضد بين جمهور الثائرين مسيحيين ومسلمين. وهكذا أيضا كان ممكنا أن يختفي التحرش الجنسي والنظرة الفوقية للمرأة، التي صارت شريكا مباشرا على قدم المساواة في المعركة ضد الاستبداد، بلا معلم ولا وصاية ولا نخب. هذا وعي اكتسب بالدم، وعي صلد وشخصي وثوري لأنه يمثل مصلحة الأغلبية المقهورة.
الديمقراطية النابعة من قلب ثورة تتميز عن كل ديمقراطية في أنها مباشرة وخاصة بكل واحد منا، ونجومها ليسوا قادة الأحزاب ولا المفكرين. فالناس المتعطشون لتغيير حياتهم يبحثون بكل كيانهم عن الطريق إلى المستقبل بعد أن ثبت لهم بالدليل القاطع أنهم يستطيعون جماعيا وديمقراطيا أن يأخذوا مسئولية المجتمع بأيديهم.
وليس هناك شيء أخطر على الثورة في مصر، من تصدير وترسيخ أفكار النخب التي تحاول انتزاع هذا الدرس وتدميره بالإصرار على أن الجماهير غير قادرة على تدير أمرها بنفسها ولو حتى في صندوق الانتخاب. وأولى بهؤلاء، لو كانوا يريدون الخير حقا، أن ينزلوا إلى الجماهير ويتفاعلوا معهم ويتعلموا منهم. فهذه هي الساحة الحقيقية لاختبار الوعي السياسي بناء على المحك الحقيقي: من تخدم أفكارك المنمقة ياسيدي؟
نشرت في جريدة الشروق يوم الأحد 10 أبريل 2011