الخميس، 3 فبراير 2011

في التبطر على نعمة الاستقرار

وائل جمال


لطالما كان "الاستقرار" هو الركيزة الأساسية التي استند عليها النظام المصري في تبرير وجوده واستمراره في الحكم، داخليا وخارجيا. وبعد سبعة أيام من الثورة المصرية، هاهو الاستقرار، الذي لم يعد مقبولا من المصريين، يعود إلى واجهة سياسة النظام المحاصر ودعايته.


التمهيد كان بالانسحاب الأمني من الشوارع ومن أمام البنوك وفتح السجون للجنائيين لكي يجتاحوا الشوارع بكل ما يعنيه ذلك من إثارة للذعر، خاصة في دوائر الطبقة الوسطى، التي يرغب النظام في استعادتها إلى صفوف سياساته بعد أن فاجأوه بانضمامهم الكاسح لصفوف المطالبين برحيله.


هذا السيناريو شمل أيضا التضخيم الإعلامي الهائل لأي حادثة ولو صغيرة، لجذب الانتباه بعيدا عن المطلب الجامع للثورة المصرية :الشعب يريد اسقاط النظام، بكل ما يعنيه هذا المطلب من حيثيات سياسية ترتبط الحريات والديمقراطية وحساب الفاسدين، واجتماعية تتعلق بإعادة بوصلة السياسات حقا في اتجاه الفقراء.


ويمتد سيناريو تمجيد الاستقرار للسماح بتداعي الخدمات، حكومية وخاصة، بالذات فيما يتعلق بنقل السلع الغذائية وإنتاج الخبز وتقييد ساعات عمل والكميات المقدمة من محطات الوقود.


والحقيقة أن هذه السيناريوهات كلاسيكية في كل التجارب التي شهدت أنظمة ديكتاتورية في لحظات الاهتزاز التي تسبق التهاوي. وقد رأى المصريون بأنفسهم على شاشات التليفزيون قبل أيام قليلة من ثورتهم نفس السيناريو بحذافيره في الثورة التونسية. بل إنه في العام 1973 في تشيلي كانت إجراءات كهذه هي السبيل نفسه من الجنرالات المتحالفين من رجال الأعمال ووكالة الاستخبارات الأمريكية للتمهيد لاسقاط حكومة سلفادور ألليندي الشعبية المنتخبة ديمقراطيا: قطع الطرق، تقديم الأموال لسائقي الشاحنات لعدم نقل المواد الغذائية من الريف للمدينة وإغلاق المحال للضغط على المواطنين ودفعهم لليأس من استمرار حتى حكومتهم المنتخبة.


وفي اللحظة التي يبدأ فيها أنصار التغيير وأسرهم في نقل تفكيرهم إلى كيفية حماية أنفسهم من الموت أو النهب أو في القلق على تدبير طعامهم وشرابهم أو حتى الحصول على مال كاف من حساباتهم البنكية لكي يستطيعوا الانفاق على احتياجاتهم اليومية، يظهر هؤلاء الشياطين من دعاة تمجيد الاستقرار القديم: "أراد الله من أن ندرك الحقيقة وأن نكتشف أنفسنا، وربما تبطر البعض منا على النعمة، وإغفال قيمة الاستقرار"، كما يقول لنا أحدهم بوضوح لا يضاهيه وضوح.

يعرف هؤلاء جيدا أن ما كان يقدمه استقرار الفقر وتدهور التعليم والصحة والقمع وتوريث الحكم ونهب الثروات لصالح رجال أعمال فاسدين على حساب حياة الناس ومستقبلهم هو بذاته ما دفع الناس إلى الشوارع، بمن فيهم رجال أعمال ورؤساء شركات وقضاة وغيرهم، ممن هم في تصنيفات العلوم السياسية الدعامة الأولى للأوضاع القائمة.

لكن هؤلاء يدركون أيضا أن للناس في كره ما كان درجات، وأن بعضا منا، ربما كانوا هم الأغلبية قد عاشوا استقرارا لا يختلف عن الفوضى التي يصرخون بمثالبها الآن.


لقد رأيت بعيني في نهاية الثمانينيات وأوائل التسعينيات حياة الآلاف من الأسر في مراكز الفيوم، الذين تستباح بيوتهم بمجرد الاشتباه في أن أحد أفراد الأسرة ينتمي للحركة الإسلامية. ومشاهد جر هؤلاء عراة من بيوتهم، بعد دخولها وتدميرها، في شوارع المدينة أو القرية لتجريسهم. ورأيت بعيني جثث إسلاميين محمولة على عربات نقل مكشوفة تمر في شوارع مدينة أبشواي لإرساء الذعر في قلوب السكان عقب التصفية الجسدية لتنظيم الشوقيين.


وبعد سقوط الحركة الإسلامية، التي كان أغلب المنتمين إليها من فقراء الصعيد والريف، ممن لا تهتم الصحف بأخبار اعتقالهم أو تعذيبهم كما تهتم بأخبار غيرهم ممن هم في شرائح اجتماعية أعلى، امتد التقليد ليصبح الإجراء الأساسي المتبع حتى في القضايا الجنائية. أي فوضى أكثر من أن تفقد قدرتك على حماية نفسك وأسرتك من عسف مخبر بأمن الدولة فقط لأنك فقير وليس لديك من يحميك منهم.


ألم يكن قتل خالد سعيد من وجهة نظر أسرته وأصدقائه "فوضى" في حياتهم وسقوطا في احساسهم بالأمان في حياتهم؟ وماذا عن كل من هم مثله ممن قتلوا تعذيبا في السجون وأقسام الشرطة أو شوهت به إنسانيتهم للأبد؟


أما فيما يتعلق بالمواد الغذائية. فلم يكن الاستقرار الذي يريدون إجبارنا على العودة إليه منزها هو الاخر من مثالب شبيهة بالفوضى التي يخلقونها لنا حاليا. تستطيع أن تعد معي كم أزمة خبز مررنا بها لدرجة أن الناس قتلوا بعضهم البعض من أجل الحصول عليه. كم أزمة بوتاجاز مرت بها البلاد سنة وراء سنة مخلفة وراءها قتلى وجرحى. يتحدثون عن الفوضى؟ أي فوضى أكثر من الملايين الذين يعيشون في العشوائيات دون خدمات تليق بالبشر في وقت يضغط فيه الاستهلاك الترفي للقلة على موارد البلد لأقصى درجة.


سنوات وسنوات مضت وخريجو الجامعات ينهون دراساتهم لكي يواجهوا فوضى المجهول، خاصة إذا لم يكن لديهم قريب أو صديق يستطيع دفعهم في وظيفة تمكنهم على الأقل من الانفاق على أنفسهم ناهيك عن الزواج أو السكن أو غيره.


أي فوضى أكثر مما يشهده التعليم والاحصائيات الحكومية تقول إن الأغلبية تتقدم فيه بالغش. وأي فوضى أعمق من تدنى قيم الكفاءة والإنتاج لصالح المحسوبية والولاء لأولي الأمر؟


منبع الفوضى الحقيقية هو النظام القائم على هذا الاستقرار واستقرار هذا النظام الذي لا يرغب فيه أحد الآن ولا حتى حلفائه في الخارج. وأما الجماهير المتظاهرة والمعتصمة في ميدان الشهداء، بتضامنها وإنسانيتها وحرصها الفطري على رفعة بلادها، فهي التي تفتح لنا طاقة النور لمجتمع آخر ليس فيه مكان لدعاة تمجيد "الاستقرار"، ومن يحركونهم.


نشرت الثلاثاء 1 فبراير في جريدة الشروق


ليست هناك تعليقات: