يشتبك السياسي والاقتصادي في صلب سياسات ما تسميه الحكومة "إعادة هيكلة الدعم". وائل جمال يكشف طبيعة هذه السياسات الطبقية الشرسة في معاداتها للفقراء في إطار الحدود التي يرسمها الميزان السياسي والاجتماعي والطبقي في مصر.
بدأت الحكومة المصرية تحركاتها لتنفيذ ما أطلقت عليه "خطة شاملة لخفض الدعم المخصص لرغيف الخبز دون المساس بسعره" وذلك في إطار ترتيبات إعادة هيكلة الدعم. وتعتمد الخطة علي خفض كميات الدقيق المدعم المخصص لصناعة الخبز في المحافظات عن طريق خفض الحصص المسلمة للمخابز. وهكذا بدأت حكومة نظيف في تفعيل واحد من اهم محاور برنامجها الاقتصادي، وربما يكون أشرسها ضد الفقراء. والحقيقة أنه على العكس من كل الطنطنة التي تقدمها البرجوازية وصحافتها حول فاتورة الدعم المتزايدة والتي تشكل أكبر عبء على موازنة الدولة، فإن قيمة الدعم الحقيقية تتراجع في السنوات الأخيرة وفقا لجميع المؤشرات. إلا أن ما تطلق عليه الحكومة "إعادة هيكلة الدعم" سيشكل خطوة نوعية بكل المعايير في برنامج الإصلاح النيوليبرالي المنحاز للأغنياء ورجال الأعمال.
أساطير حكومية حول الدعم
تقوم الترسانة الإيديولوجية للبرجوازية المصرية وجناح الصقور فيها الذي تولى زمام السياسة الاقتصادية منذ مجيء حكومة نظيف للسلطة على عدد من الأفكار المكذوبة والملفقة التي تبرر بها خططها تلك.
1. الدعم يزيد
تؤكد الحكومة أن واحدة من المشاكل الرئيسية التي تشكل عبئا على عجز موازنتها السنوي وعلى الدين العام المحلي الذي وصل لمستويات قياسية هو اضطرارها لزيادة الدعم كجزء من التزامها الذي لا يلين بمحدودي الدخل!! لكن هذه كذبة هائلة. فجميع المؤشرات تجمع على أن قيمة الدعم الحقيقية تتراجع وبشكل مستمر حتى قبل مجيء نظيف للسلطة. والدليل على هذا التراجع الدرامي في عدد المصريين المستفيدين من الدعم، تراجع السلع المدعومة عددا وقيمة، تقليص عدد البطاقات التموينية،..الخ. أما الزيادات المتواصلة التي تسجلها الصحف القومية ومنشورات دعاية الحزب الوطني (التي تنشر في صورة مقالات لكبار الصحفيين في هذه الصحف) في حجم الدعم فهي تعود إلى تغير طريقة حسابه. فجزء يصل لمئات الملايين من الجنيهات لا يتعلق بالفقراء من الأصل، حيث يقدم في صورة دعم للصادرات وأموال تندرج في إنفاق الدولة على الخدمات العامة، بل إن خسائر المرافق العامة (التي قد تعود لفساد إدارتها وانعدام كفاءتها، وهي ظاهرة مباركية أصيلة) يحسب على أنه دعم للفقراء. هذا إلى جانب أنه بمجرد انتقال نبي الليبرالية الجديدة في مصر، يوسف بطرس غالي، إلى وزارة المالية، أضاف إلى الميزانية في سابقة جديدة ما يسمى بالدعم المستتر وهو ما يمكن أن يمثل الأكذوبة الثانية.
2. الأسعار العالمية
تقوم فكرة الدعم المستتر على فكرة مفادها أن هناك فارقا في سعر منتجات كالمنتجات البترولية بين السوق المحلي والعالمي. وأنه بما أن الدولة لا تعوم السعر ليصل إلى السعر العالمي فإن ذلك يشكل دعما منها لمن يستهلكون السولار والغاز الطبيعي والبنزين (وفقا لتصريحات وزير التضامن الاجتماعي في حوار لجريدة المصري اليوم، وفي ظل ارتفاع أسعار البترول في السوق العالمي، يصل هذا الدعم في موازنة 2005-2006 إلى 42 مليار جنيه بينما هو في أغلب التقديرات لايتجاوز 22 مليار). وهذه أكذوبة اقتصادية على أعلى مستوى. فمن ناحية لا يفترض أن تشتمل الميزانية –حساب الموارد والمصروفات- على منطق افتراضي، والمقارنة بما كان ينبغي أن يكون. ومن ناحية أخرى، فإن فكرة الأسعار العالمية ليست حقيقة نهائية تعبر عن قوى السوق فهي تصطدم مثلا بتأثير الاحتكارات على الأسعار، هذا إلى جانب تفاوت تكاليف الإنتاج من بلد لآخر ناهيك عن مدى توافر ثروة كالنفط الذي يؤثر على الأسعار المحلية للمنتجات. أيضا فإن مساواة الأسعار المحلية بالأسعار العالمية إن صحت كاستراتيجية نظرية فهي تقترن أيضا بضرورة مساواة الأجور المحلية بالأجور العالمية. الأنكى من هذا هو فاتورة دعم الطاقة الموجه للقطاع الخاص، ورجال الأعمال المحتكرين ارتفعت أضعافا مضاعفة، دون أن ترمش عيون الحكومة التي تدعم أحمد عز ومحمد أبو العينين والشركات العملاقة الأجنبية التي اشترت مصانع الأسمنت والأسمدة المصرية سنويا. إذ تقدم لهم الغاز الطبيعي بسعر زهيد يكلفها سنويا دعما يصل إلى 9 مليار جنيه. وليست هناك خطط حقيقية لتقليص هذا الدعم الذي كاد تهور وزير البترول الحالي حينما أشار إليه مرة أن يطيح به من منصبه. وترتبط بهذه الأكذوبة أكذوبة أن دعم الطاقة يشوه الأسعار، وهو ما يخل بآليات السوق، ويؤدي لاضطراب السياسة الاقتصادية. وإيمان الدولة ولو حتى ظاهريا بهذه الأكذوبة ضعيف، فهي لم تتخذ أي خطوة جدية، ولن تتخذ مثل هذه الخطوة لأسباب واضحة، تجاه احتكارات الحديد والأسمنت واستيراد الورق والسكر وغيرها والتي ترفع الأسعار مغذيةً جيوب المحتكرين بالمليارات. وكان ذلك هو الأولى بها لو أنها مهمومة حقا بتشوه الأسعار!!
3. إيصال الدعم للفقراء
تصل حكومة نظيف إلى درجة من الوقاحة لا مثيل لها وهي تدافع عن أن السبب وراء إعادة هيكلة الدعم هو أنه بصورته الحالية لا يصل للفقراء بل يتسرب أساسا للأغنياء بالذات فيما يتعلق بدعم الطاقة. وفي فضح هذه النقطة يمكن الإشارة إلى مصدر لا يمكن تصنيفه على أنه معاد لحكومة نظيف هو ورقة بحثية ل د. أمنية حلمي صادرة عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية (يضم في عضوية مجلس إدارته جمال مبارك ونخبة من رجال أعمال لجنة السياسات) تقول فيها إنها على الرغم من إتسامها "بانخفاض الكفاء الاقتصادية" إلا أنها "تحقق فوائد عديدة، منها تخفيض الفقر، وتوفير الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية للمواطنين لحمايتهم من سوء التغذية، وتحقيق الاستقرار السياسي. فقد ساهم دعم أسعار السلع والخدمات الأساسية لصالح 12.6 مليون أسرة (في لحظة من تاريخه) في تخفيض نسبة الفقراء. كما ساعد دعم الخبز البلدي على إبقاء نحو 730 ألف نسمة فوق خط الفقر. ووفر دعم السلع الغذائية الأساسية حوالي 40% من احتياجات محدودي الدخل من السعرات الحرارية.
ووفقا لدراسة أخرى عن المجالس القومية المتخصصة، فإن الدعم غير المباشر الذي يقوم علي توفير سلع وخدمات بالسوق بأسعار تقل عن سعرها العالمي مثل منتجات البترول المستخرجة محلياً والتي بلغت ٢٢ مليار جنيه أي 45.5% من الدعم الكلي في الميزانية لا يحتل فيه البنزين (الذي تقول الحكومة إنه الهدف الرئيسي من التغيير على أساس أن المستفيد منه هو الأغنياء الذين يمتلكون سيارات) إلا نسبة ٢% من الدعم الموجه للمنتجات البترولية، مما يعني أن رفع أسعاره لن يؤدي إلي وفر يذكر من الإجمالي عن المواد الأخري، مثل الغاز 18.5% والسولار 12.5% والبوتاجاز ١٠%.
ما الذي تنتوي الحكومة فعله؟
وتكشف لنا نظرة سريعة على خطط الحكومة حقيقة الأمر. وفي البداية يجب الإشارة إلى حجم التعتيم الذي تمارسه الدولة على خططها في هذا الإطار. ويصل الأمر إلى حد أنه بالنسبة للكهربا على سبيل المثال، هناك خطة تنفذ خفية منذ أكتوبر 2004 لرفع أسعار الكهرباء بثمانية في المائة في 2004 ثم خمسة في المائة سنويا لمدة خمس سنوات وهو ما ينهي دعم الكهرباء تماما في 2007. وهناك مطالبات برفع النسب هذه. بينما من المخطط في حال استمرار هذه النسب أن تستمر الارتفاعات لسنتين آخرتين على الأقل لكي تحيد أثر رفع الدعم المتوقع على المنتجات البترولية وهي التي تقدم مدعومة لتوليد الكهرباء. هذه الخطة لم تقدم لمجلس الشعب، ولم يتم الإعلان عنها كجزء من برنامج الحكومة لكنها ُتنفذ. ويمكن أن نتوقع ترتيبات مشابهة في الخدمات الأخرى كالمياه والنقل، تشكل أجزاءا من الإطار الأعم لتقليص، بل وإنهاء دعم الفقراء تماما.
وتشير المعلومات المتسربة من بعض الدراسات المحدودة بنطاق مؤسسات بحثية قريبة من دوائر صنع القرار الاقتصادي في الجناح النيوليبرالي من البرجوازية المصرية كالمركز المصري للدراسات الاقتصادية ومركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار وبعض المؤسسات الدولية إلى أن الطبقة الحاكمة في مصركانت تبحث اختيارا من اثنين.
الأول هو تعديل سياسات الدعم الحالية. ويعني ذلك إعادة تحديد المتلقين للدعم وبالذات دعم الغذاء إلى جانب إعادة تسعير المنتجات البترولية وتغيير تركيبة السلع المدعومة وتحديث نظام التسجيل في بطاقات التموين لاستبعاد المستفيدين عن غير وجه حق. أما الاختيار الثاني وهو ما تميل الحكومة لتنفيذه فعلا في هذه اللحظة، فهو التحول إلى نظام للدعم النقدي. وسيقوم النظام الجديد على التعويض النقدي لمحدودي الدخل. وتقول الحكومة إنه سيعتبر تعويضا عادلا لمحدودي الدخل عن أضرار ارتفاع الأسعار المتوقع. وأنه سيخفض الأعباء المالية على الحكومة ويرشد الاستهلاك. وسيتم تحديد المستحقين للدعم النقدي غالبا عبر فاتورة استهلاك الكهرباء.
والأكيد هو أن هذا النظام الجديد سيقلص بشدة مما سينفق على الدعم بالذات دعم الغذاء، وسيؤدي إلى رفع هائل للأسعار. ويكفي أن نشير إلى تحذير للبنك الدولي من أن نسبة كبيرة من سكان مصر تعيش فوق حافة الفقر وبالتالي فإن أي ارتفاع طفيف في أسعار المنتجات الغذائية (تحتل 80% من إنفاق الأسر الفقيرة وحوالي نصف متوسط إنفاق الفرد الاستهلاكي في مصر. وهو ما يعني دفع الملايين إلى صفوف الفقراء. وإذا أضفنا تأثيرات رفع أسعار الخدمات الرئيسية كالتعليم والنقل والصحة والمياه والكهرباء، وفوق كل شيء أسعار البترول والغاز التي سترفع معها أسعار كل شيء تقريبا، نستطيع إدراك حجم الكارثة.
الدعم والسياسة
فذكرى 18 و 19 يناير 1977 لا تزال ماثلة في الأذهان. لذلك فإن الحكومة تسعى إلى البحث في الطريقة المثلى لرفع الدعم، وفي نفس الوقت، تجنب رد الفعل الشعبي العنيف على هذا الإجراء. وهكذا تلجأ إلى الإجراءات غير المعلنة تارة، وإلى تسريب بعض الأخبار هنا وهناك، في شكل بالونة اختبار،على مدى ثلاث إلى خمس سنوات، تلوكها الناس حتى تمل، وذلك حتى تهيء الأرضية قبل أن تخطو خطوتها. وهو ما فعلته حتى الآن بالنسبة للدعم. لكن بالرغم من نفاذ عزم الحكومة على المضي في خططها فإن شبح 1977 يبقى ماثلا. وهكذا مازال هناك صراع تقديرات مثلا فيما يخص تطبيق سياسة الدعم النقدي بشكل تدريجي أم بشكل فوري.
هذا بينما تحذر الدراسة الصادرة عن المجالس القومية المتخصصة (يرأسها كمال الشاذلي، ممثل الحرس القديم في الحزب الوطني، وهو الجناح الذي يلعب على فكرة أن خطط الجناح الآخر مفجرة سياسيا واجتماعيا) من أن "أن الانتفاضات الشعبية للشارع المصري في العقود الأربعة الأخيرة، كان أهم دوافعها رفع الدعم عن أسعار بعض الأغذية الأساسية. وعلى ذلك فوفرة الخبز البلدي وسعره وجودته باعتباره أهم مفرد في سلة الغذاء للفرد المصري تمثل حداً أدني لمعايير رضاء المجتمع المصري عن حكومته". وبدرجة ما نستطيع أن نرى إدراك الدولة لحساسية رغيف الخبز حيث لن يكون إلغاء دعمه بنفس السرعة التي ستنفذ بالنسبة للبنود الأخرى. لكن نستطيع أن نرى أيضا إصرارها على تقليص الإنفاق عليه بتقليص عدد المخابز الذي تقدمه وبالتالي سيحتفظ بسعره غير أن الفقراء لن يجدونه.
وتفصل دراسة ثالثة صادرة عن مركز دعم القرار بمجلس الوزراء أساليب التعامل المقترحة لامتصاص الغضب الشعبي جراء إلغاء البطاقات عبر "الاهتمام بإبراز فوائد نظام الدعم النقدي إعلاميا، والتدرج في التطبيق عن طريق تحويل جزء من الدعم العيني لدعم نقدي وقياس مدى تقبل الخطوة". غير أنه من غير المحتمل أن تثني هذه التحديات مجموعة الصقور النيوليبراليين الذين يرغبون في حل أزمة عجز الموازنة على حساب الفتات الذي يقدم للفقراء عن التحرك السريع في تنفيذ مخططهم. ويمكن في إطار ذلك أن نرى إمكانات أعلى لتفجر الغضب الشعبي والطبقي خاصة في ظل الفوران الذي تشهده مصر على كل الجبهات.