الأربعاء، 9 يوليو 2008

الحرية مجرد كلمة أخرى

هل تعاني من ارتفاع الأسعار؟ هل انخفض راتبك أو لم يعد قادرا على شراء احتياجاتك؟ هل استغنى عنك صاحب العمل بعد أن انهارت شركته، أو تداعي مصنعه أمام المنافسة الدولية والمحلية مع الكبار؟ أو خرجت على المعاش المبكر بعد بيع المصنع للمستثمر الخاص؟ هذا هو الثمن الذي يقول أنصار ما يسمى بالليبرالية الجديدة، مذهب حرية السوق، الذي انتشر في سنوات قليلة ليسيطر على برامج حكومات العالم بأسره، إنه ضروري من أجل حريتك الفردية! لكن كيف ظهرت الليبرالية الجديدة؟ وكيف انتشرت في العالم كله لتصبح جزءا من المنطق العام للأمور؟ ولماذا تتناقض، وهي التي تدافع عن حرية الأفراد مع حرية مئات الملايين في الحصول على حياة أفضل؟ الإجابة يقدمها الاقتصادي البريطاني المرموق ديفيد هارفي أستاذ الأنثربولوجي بجامعة سيتي في نيويورك من خلال كتابه "التاريخ المختصر لليبرالية الجديدة"، والذي صدر مؤخرا في طبعته الشعبية في بريطانيا.

لم يعد من شك، وليس فقط من خلال الجدل الإيديولوجي، أن سياسات الليبرالية الجديدة، بما تحث عليه من فتح للأسواق وانسحاب للدولة من الساحة الاقتصادية الاجتماعية وإعطاء الأولوية للاستثمار العالمي والمحلي، قد أنتجت عالما زاد فيه التفاوت في الدخول بشكل تاريخي. وتؤكد دراسات أكاديمية مبنية على بحوث مسحية على اقتران البرنامج الليبرالي الجديد بعملية فرز طبقي عميقة. في الولايات المتحدة مثلا، قفز نصيب أغنى واحد في المائة من السكان من الدخل القومي من ثمانية في المائة مع نهاية الحرب العالمية الثانية إلى خمسة عشر في المائة حاليا وهو في ازدياد مستمر. هذا بينما ارتفع متوسط دخل كبار موظفي الشركات من ثلاثين ضعف دخل العامل العادي إلى خمسمائة ضعف في نفس الفترة. وهذه ليست ظاهرة أمريكية إنما يمكن تعميمها عالميا، وحتى في مصر التي صار كبار رجال الأعمال يحصدون ثمار نموها الاقتصادي تاركين لعمالها وفقرائها التضخم والبطالة وانهيار الخدمات.

هذا هو جوهر الأمر بالنسبة لهارفي وليس مجرد عرض لليبرالية الجديدة. فهناك اتجاهان عادة ما يهيمنان على تفسير ظهور الليبرالية الجديدة كتيار مسيطر في الفكر والممارسة الاقتصاديين بدءا من السنتين السحريتين 78-1980. الأول، ينطلق من قوته النظرية وارتكازه على قضية الحرية التي أعطته تفوقا على سائر المذاهب الاقتصادية الأخرى بعد فشلها في التعامل مع الواقع. والثاني، يعطي العامل الدولي ممثلا في الولايات المتحدة الفضل الرئيسي في نشره وتعميمه بالقوة حينا وبالدعاية والترويج حينا آخر، بالقوة العسكرية تارة (كما حدث في شيلي السبعينيات)، وبلي الذراع اقتصاديا عبر المؤسسات الدولية كالبنك والصندوق الدوليين تارة أخرى. لكن هارفي لا يرى في أي من التفسيرين الغنى الكافي لفهم انتشار الليبرالية الجديدة.

فهو من ناحية يشير عن حق إلى وجود هذه المدرسة الفكرية، مدرسة الليبرالية الجديدة، لسنوات قبل أن يتحول فكرها إلى برنامج العمل المعتمد للرأسمالية، وذلك من خلال ما سمي بجمعية مونت بيليرين التي أسسها الاقتصادي النمساوي فريدريك فون هايك وضمت معه ميلتون فريدمان، الذي سمي بأبي الاقتصاد الحر وكان المرتكز لمجموعة أخرى في جامعة شيكاغو سميت بأولاد شيكاغو. فهي لم تكن كشفا نظريا جديدا أغرى العالم بإتباعه. الأكثر من ذلك، هو أن هذه المدرسة النظرية متناقضة في تطبيقها العملي في نواح متعددة. فهي وإن كانت تطالب بانسحاب الدولة من الاقتصاد، لا تمانع أبدا، في التطبيق العملي، في احتضان الدولة للرأسماليين سواء كذراع لفرض مصالحهم بالقوة في الساحة الدولية أو حتى كحضانة داخلية يكبرون فيها تحت مظلتها. وفي مصر نرى بوضوح كيف يعتبر الليبراليون الجدد في الحكم دعم الفقراء فيما يخص الطاقة معركة حياة أو موت بينما دعم مصانع الكبار بالغاز الطبيعي أمر غير مطروح. الدولة تصبح في ظل الليبرالية الجديدة حكرا على البرجوازية.

ومن ناحية أخرى، وكما انتشرت الليبرالية الجديدة في مناطق مختلفة من العالم عبر سياسة مقصودة تقودها الولايات المتحدة‘ فإن هناك جانبا طوعيا واضحا في هذا الانتشار يؤكد المصلحة المحلية الواضحة في ذلك.

بالنسبة لهارفي، الليبرالية الجديدة ليست مجرد تيار فكري ولا مؤامرة أمريكية، وإنما مشروع سياسي اقتصادي متكامل الغرض منه استعادة السلطة الاقتصادية الطبقية. لهذا ترتبط التاتشرية والريجانية واللتان دشنتا العصر النيوليبرالي بالنقطة التي وصلتها الرأسمالية في منتصف السعينيات بضرورة مراجعة الصفقة التاريخية التي عقدتها الرأسمالية في أعقاب الحرب العالمية فيما سمي بدولة الرفاه. في هذه الصفقة قررت الطبقات الحاكمة المشاركة بنصيب أكبر من الثروة مع العمال في أوربا المتقدمة. وطالما كان النمو في ازدياد، وهي سمة للثلاثة عقود التي أعقبت الحرب، لم تكن هناك مشكلة إذ أن الكعكة كلها تزيد. لكن مع عودة الاقتصاد العالمي للأزمة في السبعينيات بدأ نصيب الأكثر دخلا من الكعكة يتراجع بتراجع الكعكة وكان لابد من حل يسمح بعودة التراكم الرأسمالي مرة أخرى لمعدلاته المقبولة. وكان الحل عبر هذه السياسات التي تعطي الأولوية وتعيد السلطة الاقتصادية كاملة للطبقات الحاكمة.

ولاينسى هارفي أن يؤكد على أن هذه العملية لم تعن أن السلطة عادت لمن كانوا أصحابها من قبل. فهي وإن كانت تعني استعادة السلطة الاقتصادية الطبقية فإن هذا لا يستلزم أنها تقوم بذلك لصالح نفس الأشخاص. إذ في حالات كثيرة أعادت الليبرالية الجديدة تشكيل هذه الطبقة الحاكمة مرة أخرى. في بريطانيا مثلا، انحازت مارجريت تاتشر بوضوح ضد التقليد الارستقراطي الذي سيطر على الجيش والقضاء والمركز المالي في لندن وبعض القطاعات الصناعية لصالح الرواد الاقتصاديين الجدد والأغنياء المحدثين. وفي مصر يمكن أن نرى كيف خلقت الليبرالية الجديدة، التي تتسارع خطوات برنامجها على يد حكومة نظيف وصقورها، من أتباع إجماع واشنطن وأولاد شيكاغو، برجوازية جديدة. وفي هذا الحال لا يجب أن ننخدع أبدا بالحرب التي يشنها هؤلاء على البيروقراطية القديمة لصالح الرأسماليين الجدد من نوعية أحمد عز ومحمد أبو العينين.

يعيد هارفي اكتشاف الطبقة كفاعل في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في عصر الليبرالية الجديدة. ويكشف طبيعة الحرية التي تكفلها:"حرية للنخب التي تعيش مرتاحة في جيتوهات معزولة، وحرية وحقوق لهؤلاء الذين لا تحتاج متعتهم وأمنهم وثروتهم أي توسيع". حرية للقلة القليلة التي ترى وحدها في عالم الليبرالية الجديدة عالما أفضل تاركة لنا الشقاء والفقر والتعاسة.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

مبروك
شد حيلك
وائل