وائل جمال
كيف تتأسس الأحزاب؟ وكيف نضمن أن تكون هناك حياة سياسية ديمقراطية سليمة بدون أحزاب قوية؟ هذه الأسئلة التى تصدرت الجدل حول الدستور خلال الأسابيع الماضية تظل أسئلة محورية بعد أن صوت المصريون بنعم، برغم أن من دفعوا بها كانوا بالأساس من دعاة التصويت بلا.
فقد كان موضوع إعطاء الفرصة لتشكل أحزابا جديدة ولنضوج النظام الحزبى، دافعا رئيسيا لأنصار رفض تعديلات لجنة المستشار البشرى، على أساس أن بدء العملية السياسية بانتخابات برلمانية مبكرة يفوت الفرصة على هذه الأحزاب والتيارات الجديدة التى كشفت عنها الثورة، معطيا وزنا أكبر للإخوان المسلمين وحتى فلول الحزب الوطنى.
فهل للنظام الحزبى والأحزاب كل هذا الثقل فى الديمقراطيات المعاصرة أو فى تشكيلها، ومن ثم سيكون لها هذا الدور الحاسم فى تحديد مستقبل الثورة؟
تقول لنا أدبيات العلوم السياسية إن الأحزاب فاعل أساسى فى السياسة فى النظم الديمقراطية. فأول وظيفة للحزب السياسى هو تمثيل المطالب والمصالح فى المجتمع وبلورتها فى برامج صالحة للتطبيق فى الحكم.
فى هذا الإطار لابد من التأكيد على أن الأحزاب، كل الأحزاب، هى تعبير عن مصالح، وأن فكرة وجود حزب بلا مصالح هو وهم. وهكذا لابد من تعرية تلك الفكرة التى كان يستخدمها نظام مبارك دائما ضد معارضيه واصما إياهم بها. ويقول لنا تاريخ الحزب الديمقراطى فى الولايات المتحدة كيف أنه ظهر تعبيرا عن مصالح الجنوب الأمريكى بتركيبته الطبقية والسياسية الرجعية، قبل أن يغير توجهه فى الثلاثينيات ليمثل مصالح وتوجهات الطبقة العاملة الشمالية. وأما الجمهوريون فكانوا بالأساس حزب الشمال المعادى للعبودية ثم تحول ليصبح متماهيا مع حرية السوق والممثل الأكثر سفورا لرأس المال واليمين الأمريكى، وهو ما يستمر عليه الحال للآن.
ويظل تمثيل المصالح والدفاع عنها هو الوظيفة الأهم للأحزاب برغم أن لها وظائف أخرى فى المجتمع، منها التوفيق بين مجموعات اجتماعية مختلفة على برنامج، وإعداد قيادات الحكم وخلق الانسجام بين مؤسسات الدولة المختلفة من برلمان لرئاسة لأجهزة تنفيذية.. الخ. إذ إن كل هذه الوظائف تنبنى على الأساس المتين من نمط المصالح الذى تمثله الأحزاب وبالتالى قدرتها على التعبئة الشعبية والحشد لصناديق الانتخاب ومن ثم تشكيل الحكومات وقيادة البرلمان.
وبينما لا جدال على أهمية الأحزاب فيما ننتظره من تطورات فى مصر خلال السنتين الحاسمتين المقبلتين، فإن دورها يبقى محددا بقدرتها على تمثيل مصالح قطاعات الأغلبية، وهو أمر فشلت فيه الصيغ الحزبية فى النظم الديمقراطية المتقدمة فى العقود الأخيرة، مما انعكس فى أزمة شاملة وعامة تواجه الأنظمة الحزبية فى العالم عموما.
ففى 2006 كان عدد المنتمين للأحزاب البريطانية هو 1 لكل 88 ممن لهم حق الانتخاب مقارنة ب 1 من كل 11 قبل ذلك بخمسين عاما. وفى فرنسا تراجع عدد الحزبيين ليس فقط لمجمل قاعدة المصوتين، وهو ما قد يتسبب فيه زيادة عددهم، لكن عددهم تراجع فى المطلق. وتنعكس هذه الأزمة فى تراجع كبير لنسب المشاركين فى الانتخابات العامة فى الديمقراطيات العتيدة وفى أزمة تمثيل سياسى. السبب فى هذا هو بالأساس ضيق قاعدة تمثيل المصالح فى الأحزاب التقليدية وعدم ظهور أحزاب جديدة توسع دائرة التمثيل. وهكذا فإن الفوارق بين العمال والمحافظين فى بريطانيا أو الجمهوريين والديمقراطيين فى الولايات المتحدة تصبح محدودة بأنها جميعا تمثل، فى ظل سيطرة السوق والليبرالية الجديدة والشركات الكبرى، هذا الجناح أو ذاك من نخبة السلطة والمال المسيطرة بالفعل.
من هنا فمن يعولون على الاستناد إلى الأحزاب لاستيعاب زخم الثورة، والمصالح التى تعبر عنها سيواجهون هذه المعضلة الصعبة، معضلة الاقتصار على تمثيل ضيق للمصالح تسيطر عليه النخب القديمة من رجال أعمال وغيرهم.
ويزيد الأمر صعوبة بالنسبة لأولئك الذين يبنون قاعدة تأسيس أحزابهم الجديدة على برنامج يتم تحضيره فى المعمل، ثم يتم تقديمه للجماهير من أعلى و«توعيتهم به». بالطبع تتطلب هذه الصيغة وقتا لكى تتم، ربما للأبد. لأنها تفترض أن وعى الجماهير السياسى يتم فى حلقات التثقيف المعملية وليس فى خضم معركة الناس أنفسهم على مصالحهم المباشرة، التى هى ليست وصمة كما يصر البعض ممن يتهمون الاحتجاجات الاجتماعية بها. وتتشابه هذه الأرضية مع موقف من قالوا إن ثورة تونس غير قابلة للتكرار فى مصر لأن المصريين غير متعلمين كالتوانسة ولا تمسهم القيم العليا كالحرية والعدالة، وهكذا يلقون باللائمة فى فشلهم على الجماهير «غير الواعية». واستعير فى هذا من صديقى المدون والناشط الاشتراكى وائل خليل قوله إن الأحزاب لا تجهز نفسها لتمثيل مصالح الناس والتأثير فيهم وتنظيمهم وتعبئتهم فى «الجيم». الأحزاب لا تتأسس بالتدريب على رفع الأثقال استعدادا للمباراة. الأحزاب تتأسس فى المباراة.
فى هذا الإطار يضرب باحثون فى العلوم السياسية المثل بقصة حزب العمال البرازيلى، حزب الرئيس السابق لولا داسيلفا. فقد تأسس هذا الحزب فى مطلع الثمانينيات من القرن الماضى بمبادرة من قادة عماليين قاعديين، ينتمى لولا نفسه لفئتهم. وتوسع الحزب بسرعة شديدة ليضم الآلاف من العمال الشباب فى الريف والمدينة بجانب شرائح من مهنيى الطبقة الوسطى وآخرين. تشكل الحزب وتوسع كتمثيل قاعدى لأولئك المتضررين من سياسات الليبرالية الجديدة التى ضربت الفقراء والعمال وشرائح واسعة من المهنيين فى مستويات معيشتهم. وسع الحزب نفسه على الأرض باستراتيجية مزدوجة: خلق مساحات للشعب المنتج لينظم نفسه على الأرض مقتحمين بذلك عالم السياسة، وفى الوقت نفسه دخل معركة الانتخابات فى المحليات والبرلمان والرئاسة.
وفى مصر، هذه المهمة ليست مستحيلة، ولا تستغرق كل هذا الوقت الذى تحتاجه أحزاب المعمل، خاصة فى أعقاب ثورة. وإلا كيف نفسر ظهور مبادرة كحزب العمال الديمقراطى الذى دعت إليه قيادات الإضرابات العمالية الكبرى خلال السنوات الماضية بمبادرة قاعدية ليضم العاملين بأجر، فتنضم إليه مئات عديدة من خارج نخبة السياسة والسياسيين فى أيام قليلة؟ أما إذا جاءت المبادرة من سياسيين أو مثقفين فلا مناص أن تكون بوصلتها ومكان عملها هو التحركات الشعبية والأحياء والقرى، بالاشتباك المباشر مع الجمهور.
هذا هو ما تحتاجه السياسة فى مصر. أحزاب ومبادرات وتنظيمات واسعة تنبنى على قاعدة مصالح واضحة يعى بها كل عامل وموظف أجير دون توجيه من أحد، إذ إنها حصاد تجربته وممارسته المباشرة على الأرض. قاعدة مصالح تمكن حزبها من الوصول إلى كل من يتماهى معها. هذه هى أحزاب الناس، فى المحافظات كما فى القاهرة وفى الشارع لا فى الفيس بوك، هذه هي الأحزاب التى تحتاجها بلادنا لموازنة نفوذ المال واليمين الدينى. والناس لا يستجيبون لمن يتعالى عليهم ولا يعمل من وسطهم، وبالتأكيد لا ينتظرون أحدا.
فقد كان موضوع إعطاء الفرصة لتشكل أحزابا جديدة ولنضوج النظام الحزبى، دافعا رئيسيا لأنصار رفض تعديلات لجنة المستشار البشرى، على أساس أن بدء العملية السياسية بانتخابات برلمانية مبكرة يفوت الفرصة على هذه الأحزاب والتيارات الجديدة التى كشفت عنها الثورة، معطيا وزنا أكبر للإخوان المسلمين وحتى فلول الحزب الوطنى.
فهل للنظام الحزبى والأحزاب كل هذا الثقل فى الديمقراطيات المعاصرة أو فى تشكيلها، ومن ثم سيكون لها هذا الدور الحاسم فى تحديد مستقبل الثورة؟
تقول لنا أدبيات العلوم السياسية إن الأحزاب فاعل أساسى فى السياسة فى النظم الديمقراطية. فأول وظيفة للحزب السياسى هو تمثيل المطالب والمصالح فى المجتمع وبلورتها فى برامج صالحة للتطبيق فى الحكم.
فى هذا الإطار لابد من التأكيد على أن الأحزاب، كل الأحزاب، هى تعبير عن مصالح، وأن فكرة وجود حزب بلا مصالح هو وهم. وهكذا لابد من تعرية تلك الفكرة التى كان يستخدمها نظام مبارك دائما ضد معارضيه واصما إياهم بها. ويقول لنا تاريخ الحزب الديمقراطى فى الولايات المتحدة كيف أنه ظهر تعبيرا عن مصالح الجنوب الأمريكى بتركيبته الطبقية والسياسية الرجعية، قبل أن يغير توجهه فى الثلاثينيات ليمثل مصالح وتوجهات الطبقة العاملة الشمالية. وأما الجمهوريون فكانوا بالأساس حزب الشمال المعادى للعبودية ثم تحول ليصبح متماهيا مع حرية السوق والممثل الأكثر سفورا لرأس المال واليمين الأمريكى، وهو ما يستمر عليه الحال للآن.
ويظل تمثيل المصالح والدفاع عنها هو الوظيفة الأهم للأحزاب برغم أن لها وظائف أخرى فى المجتمع، منها التوفيق بين مجموعات اجتماعية مختلفة على برنامج، وإعداد قيادات الحكم وخلق الانسجام بين مؤسسات الدولة المختلفة من برلمان لرئاسة لأجهزة تنفيذية.. الخ. إذ إن كل هذه الوظائف تنبنى على الأساس المتين من نمط المصالح الذى تمثله الأحزاب وبالتالى قدرتها على التعبئة الشعبية والحشد لصناديق الانتخاب ومن ثم تشكيل الحكومات وقيادة البرلمان.
وبينما لا جدال على أهمية الأحزاب فيما ننتظره من تطورات فى مصر خلال السنتين الحاسمتين المقبلتين، فإن دورها يبقى محددا بقدرتها على تمثيل مصالح قطاعات الأغلبية، وهو أمر فشلت فيه الصيغ الحزبية فى النظم الديمقراطية المتقدمة فى العقود الأخيرة، مما انعكس فى أزمة شاملة وعامة تواجه الأنظمة الحزبية فى العالم عموما.
ففى 2006 كان عدد المنتمين للأحزاب البريطانية هو 1 لكل 88 ممن لهم حق الانتخاب مقارنة ب 1 من كل 11 قبل ذلك بخمسين عاما. وفى فرنسا تراجع عدد الحزبيين ليس فقط لمجمل قاعدة المصوتين، وهو ما قد يتسبب فيه زيادة عددهم، لكن عددهم تراجع فى المطلق. وتنعكس هذه الأزمة فى تراجع كبير لنسب المشاركين فى الانتخابات العامة فى الديمقراطيات العتيدة وفى أزمة تمثيل سياسى. السبب فى هذا هو بالأساس ضيق قاعدة تمثيل المصالح فى الأحزاب التقليدية وعدم ظهور أحزاب جديدة توسع دائرة التمثيل. وهكذا فإن الفوارق بين العمال والمحافظين فى بريطانيا أو الجمهوريين والديمقراطيين فى الولايات المتحدة تصبح محدودة بأنها جميعا تمثل، فى ظل سيطرة السوق والليبرالية الجديدة والشركات الكبرى، هذا الجناح أو ذاك من نخبة السلطة والمال المسيطرة بالفعل.
من هنا فمن يعولون على الاستناد إلى الأحزاب لاستيعاب زخم الثورة، والمصالح التى تعبر عنها سيواجهون هذه المعضلة الصعبة، معضلة الاقتصار على تمثيل ضيق للمصالح تسيطر عليه النخب القديمة من رجال أعمال وغيرهم.
ويزيد الأمر صعوبة بالنسبة لأولئك الذين يبنون قاعدة تأسيس أحزابهم الجديدة على برنامج يتم تحضيره فى المعمل، ثم يتم تقديمه للجماهير من أعلى و«توعيتهم به». بالطبع تتطلب هذه الصيغة وقتا لكى تتم، ربما للأبد. لأنها تفترض أن وعى الجماهير السياسى يتم فى حلقات التثقيف المعملية وليس فى خضم معركة الناس أنفسهم على مصالحهم المباشرة، التى هى ليست وصمة كما يصر البعض ممن يتهمون الاحتجاجات الاجتماعية بها. وتتشابه هذه الأرضية مع موقف من قالوا إن ثورة تونس غير قابلة للتكرار فى مصر لأن المصريين غير متعلمين كالتوانسة ولا تمسهم القيم العليا كالحرية والعدالة، وهكذا يلقون باللائمة فى فشلهم على الجماهير «غير الواعية». واستعير فى هذا من صديقى المدون والناشط الاشتراكى وائل خليل قوله إن الأحزاب لا تجهز نفسها لتمثيل مصالح الناس والتأثير فيهم وتنظيمهم وتعبئتهم فى «الجيم». الأحزاب لا تتأسس بالتدريب على رفع الأثقال استعدادا للمباراة. الأحزاب تتأسس فى المباراة.
فى هذا الإطار يضرب باحثون فى العلوم السياسية المثل بقصة حزب العمال البرازيلى، حزب الرئيس السابق لولا داسيلفا. فقد تأسس هذا الحزب فى مطلع الثمانينيات من القرن الماضى بمبادرة من قادة عماليين قاعديين، ينتمى لولا نفسه لفئتهم. وتوسع الحزب بسرعة شديدة ليضم الآلاف من العمال الشباب فى الريف والمدينة بجانب شرائح من مهنيى الطبقة الوسطى وآخرين. تشكل الحزب وتوسع كتمثيل قاعدى لأولئك المتضررين من سياسات الليبرالية الجديدة التى ضربت الفقراء والعمال وشرائح واسعة من المهنيين فى مستويات معيشتهم. وسع الحزب نفسه على الأرض باستراتيجية مزدوجة: خلق مساحات للشعب المنتج لينظم نفسه على الأرض مقتحمين بذلك عالم السياسة، وفى الوقت نفسه دخل معركة الانتخابات فى المحليات والبرلمان والرئاسة.
وفى مصر، هذه المهمة ليست مستحيلة، ولا تستغرق كل هذا الوقت الذى تحتاجه أحزاب المعمل، خاصة فى أعقاب ثورة. وإلا كيف نفسر ظهور مبادرة كحزب العمال الديمقراطى الذى دعت إليه قيادات الإضرابات العمالية الكبرى خلال السنوات الماضية بمبادرة قاعدية ليضم العاملين بأجر، فتنضم إليه مئات عديدة من خارج نخبة السياسة والسياسيين فى أيام قليلة؟ أما إذا جاءت المبادرة من سياسيين أو مثقفين فلا مناص أن تكون بوصلتها ومكان عملها هو التحركات الشعبية والأحياء والقرى، بالاشتباك المباشر مع الجمهور.
هذا هو ما تحتاجه السياسة فى مصر. أحزاب ومبادرات وتنظيمات واسعة تنبنى على قاعدة مصالح واضحة يعى بها كل عامل وموظف أجير دون توجيه من أحد، إذ إنها حصاد تجربته وممارسته المباشرة على الأرض. قاعدة مصالح تمكن حزبها من الوصول إلى كل من يتماهى معها. هذه هى أحزاب الناس، فى المحافظات كما فى القاهرة وفى الشارع لا فى الفيس بوك، هذه هي الأحزاب التى تحتاجها بلادنا لموازنة نفوذ المال واليمين الدينى. والناس لا يستجيبون لمن يتعالى عليهم ولا يعمل من وسطهم، وبالتأكيد لا ينتظرون أحدا.
نشرت في الشروق في 22 مارس 2011